لا نعلم أية إنسانية ستخرج يوما من آلة الاستنساخ البشري. ولكن لا تزال كل أنا، حتى الآن، مفردة، فريدة وغير قابلة للاختزال إلى أنت. وفرادتها، أو هويتها، منقوشة في كل شعرة من شعرها، وفي أطراف أناملها. والحق أن ما من أنا إلا وهي ثقافة. فالأنا ليست خواء. والثقافة التي لا توجد بالفعل إلا عندما تتحقق في أنا، تشارك حتما في هذه الأنا، وتقترن بقسماتها وملامحها، وهي إذ تتحقق في أنا مفردة وفريدة، تصبح هي نفسها مفردة وفريدة. ومن الجائز لقائل أن يقول، في حد أقصى، إن ثمة ثقافات بقدر ما توجد أنات، كيانات لا يمكن اختزال أحدها إلى آخر. لقد ركز مارتن بوبر وإمانويل لفيناس كثيرا على الطابع غير الاختزالي للأنا، المأخوذة في «وحشة الوجود»، أي في نهائية الهوية. فكل يحمل، في «وحشة الوجود»، الخاتم المميز لبصمات أصابعه، ولون شعره، وحدقة عينه. والهوية الفردية، في الوقت الحاضر ومن دون استباق لنتائج الاستنساخ، ليست في خطر. وهذا وجه من وجوه المسألة.

غير أن مارتن بوبر وإمانويل لفيناس قد ركزا أيضا على العلاقة بالآخر، بالـ«أنت» الذي يقوم بدور المرآة، أو الكاشف، الذي يظهر ما هو مكنون من صورة الأنا. فالمجتمع، بعبارة أخرى، ضروري لبروز الهوية. والواقع أن هذا المجتمع يمكن أن يكون محدودا، ضيقا، اختزاليا، مغلقا ومجردا للفرد من شخصيته، أو منبسطا، واسعا، محررا ومنفتحا. كلما كانت الجماعة محدودة كانت نزاعة إلى الامتلاك. فالرجل، العضو في رهط بدائي، كان قليل الاختلاف عن رهطه إلى حد أن الأنا خاصته، شخصيته الفردية، قليلا ما كانت تبرز من شخصية الرهط العامة. لم يتمكن الفرد من الظهور وتأكيد فرادته إلا مع تراخي صلات الرهط البدائي تدريجيا، وهي ظاهرة كثيرا ما تكرر وصفها. وما العولمة بالظاهرة الجديدة: إنها عملية مندرجة في سياق التاريخ ومحور التطور الاجتماعي. والجديد إنما هو أن هذه العملية قد خرجت عن مسلك الجادة العامة.

والحاصل، أن ليس لأي أنا أن يوجد بمفرده، من دون أنت يكشفه لذاته، ويعكس له صورته، ويمكنه من إدراك اختلافه، ويخصبه بكل ما للكلمة من معان. والأنا لا يبرز إلا في تعدد الاختلافات، وأيضا في تشابه التخصيبات المتبادلة. فقوام كل ثقافة إذاً منوط حتما بالهوية الفردية المعمولة من التباينات المتفاوتة الدرجات، وبالهوية الجماعية المعمولة من التشابهات المتفاوتة التلاوين. ومن الجائز أن تجري عملية التباينات والتشابهات من حيث الثقافه والهوية داخل المجتمعات المحدودة النطاق -الرهط، العشيرة، القبيلة، إلخ...- أو المجتمعات الأوسع نطاقا. ولم تزل حركة التاريخ، ومثلها حركة التطور بصورة عامة، تتوجه توجها لا يقاوم من البساطة إلى التركيب، من المجتمعات الصغرى إلى المجتمعات الكبرى المتزايدة الشمول والنازعة إلى العالمية. ويعود الفضل إلى أرنولد توينبي في تبيين كيف أن الحضارات فانية كلها. غير أن الحضارة تستمر، في مسيرتها الدائمة نحو المزيد من التركيب والعولمة، منقادة لقانون التطور العام. فهل دخلنا اليوم، مع طرق المعلومات الدولية، في عصر الحضارة والثقافة، على نطاق العالم؟ هذا هو الوجه الثاني للمسألة.

*1997

* مؤرخ وأستاذ جامعي تونسي «-1921 2017»