باب الكرم
مشهد بسيط في مبناه، آسر في معناه، يختصر سيرة رجل كثير من الناس عرفوه، ليس من قضايا ومتابعات الهيئة، ولكن كرمه الذي يفوق الوصف، كان ملمحا وضاء، من بين سجاياه التي طرز بها مسيرة حافلة، خط سطره الأول في مدينة الهلالية بالقصيم. لا غرابة أن يرتاد منزله الناس طلبا للطعام أو القهوة، أو حتى للمبيت، حين لم تكن الفنادق قد عرفت وقتذاك. كان الغرباء يشاهدون بابا مفتوحا، وأناسا ترتاد المكان، حتى ظنه بعض الناس مكانا عاما مشاعا، لم يدر بخلد أحد منهم أنه منزل خاص، لكن صاحبه رجل مضياف، يفرح بقدوم الضيف أكثر من فرح الضيف بوجود المأوى والطعام، والحساب آخر الشهر. كانت المنطقة يرتادها زوار ومسؤولون، يقدمون إليها لمتابعة أعمال بعض الإدارات الحكومية، أو للتفتيش. لم يكن لهم من مأوى سوى منزل الشيخ، يقيمون فيه حتى تنقضي مهامهم، وكأنهم يقيمون في منازلهم، الشيخ يقوم على خدمتهم، يصنع لهم القهوة، ويقدمها لهم بيده.
لا جفوة ولا غلظة
لم يكن «عبدالله بن صالح العواد» محدودا بمحيط عمله، ولا محصورا في نطاق صداقاته الخاصة، بل (رجل عامة) يعرفه الكبار والصغار، ويسمع به المقيمون والزوار، ليس حبيس داره كما يفعل كثير ممن يتسنمون مناصب قيادية، بل شاخص دوما، حيثما نظرت وجدت (العواد) ماثلا أمامك، إن لم يكن بشخصه، فبمآثره الطيبة، وأعماله النبيلة، وسمعته الحسنة، رغم أنه يقود جهازا حساسا، جهازا ينهض برسالة البناء والإصلاح، وفي الوقت ذاته يتصدى لحالات الانحراف والإفساد، فلا غرابة والحالة هذه، أن يكون له حساد وأعداء ممن لا يريدون لأحد أن ينجح في عمله، أو يتصدى لتقويم معوجهم، إلا أن الأمر الذي لا ينقضي منه العجب، أن الرجل استطاع أن يكسب الجميع لا إلى شخصه فقط، بل حبب جهاز الهيئة إلى الناس جميعا، حتى إن كثيرين ممن تراودهم وساوس الفساد والانحراف، يحجم عن ذلك حبا في الرجل وحياء منه، واحتراما للجهاز الذي يرأسه، بحكم ما وفق إليه من حكمة وصبر ولين ورفق في معالجة النفوس، والتغلغل في زواياها، حتى يستل منها عنصر الشر والفساد، دون تعنيف أو تأنيب، أو جفوة وغلظة، فلا غرابة في أن يوصف بأنه (صديق الجميع)، وأن تتصدر -كما عرفه الناس- أي ترجمة له.
نهج العواد نهج الرواد
من يتتبع سيرة العواد يدرك أن الرجل كان يسير في عمله الدعوي والإصلاحي، وفق ثوابت اختطها لنفسه، استقاها من سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسار فيها على نهج السلف الصالح، لذا لازمه التوفيق في سائر أعماله، ورافقه النجاح، مما جعله يبقى في رئاسة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، دهرا طويلا، وزمنا مديدا.
في مجال استصلاح من وقع في بعض المعاصي والمفاسد، انتهج الرجل استثارة الفطرة، وتفعيل الخطاب العاطفي الذي يستجيش كوامن الخير في النفوس، فاستجاب كثيرون لهذا النداء الفطري. استلهم العواد وهو يدعو إلى الله، ويوجه الناس نحو الخير والصلاح، «الرفق أجلا»، نهج رفيع كريم، إرث من إرث النبوة، فتتجاوب النفوس مع هذا الأسلوب السمح المحبب، الخالي من التقريع واللوم الشديد، حيث يستشعر المتلقي حنان الأبوة يتفايض، والصدق يتدفق من كلمات العواد.
الأصل والفرع
«كل الناس حملة رسالة» من أصول الحكمة التي انتهجها العواد، أن يحرك الناس كل الناس، ليكونوا شركاء الهينة، في النهوض بالمستوى الأخلاقي للمجتمع، وتدارك ما قد يقع من بعض الأفراد من الانحرافات والجنوح، الهيئة جزء من المجتمع، وليست وصية عليه، والمجتمع داعم لرسالة الهيئة، وليس مناوئا لها، هكذا قاد الرجل عمله بمهارة واقتدار، ووظف طاقات اجتماعية كثيرة وقامات إدارية مهمة.
بعمق البصيرة، وحنكة المجرب، أدرك أن كل مشكلة تقع لها أصل تنطلق منه، وفرع يظهر للناس، ما إن تعرض عليه مشكلة حتى يرجعها إلى أصلها، ثم يبدأ معالجة الأصل، وبالضرورة إذا عولج الأصل سيذبل الفرع ويتلاشى تلقائيا.
بنات الحي
حدث أن مجموعة من سكان بعض الأحياء تقدموا بشكوى للهيئة مفادها كثرة السيارات التي ترتاد الحي، وتزعج الناس، لم يبعث الشيخ رجاله ليتصدوا لهؤلاء الشباب المزعجين. بحكمته المعهودة، بحث عن السبب الذي يدفع الشباب لارتياد الحي، قاده البحث والتتبع إلى أن أحد السكان لديه عدد من البنات المؤهلات للزواج، ولكن والدهن يحول بينهن وبين ذلك، يرد الخُطّاب بلا مبرر. استدعى الشيخ والدهن، حاوره بهدوء، وسلاسة ولطف مشهود، حتى أقنعه بتزويج البنات من أكفائهن. اقتنع الرجل، وبدأ يبحث عن الشباب الذين سبق أن تقدموا له ورفضهم، تزوجت البنات، وحلت عدة مشكلات، العنوسة، والإزعاج، وأوصد باب كاد يفتح لفساد الأخلاق. كانت سيرة العواد -رحمه الله- واستقامته وصلاحه، في قيادة جهاز الهيئة في عسير، أعظم أثرا في الناس الذين تعامل معهم، إصلاحا واستصلاحا، فكان التزامه بما يدعو الناس إليه مثار إعجاب، وباعث استجابة، ودليل هداية.
الستر
يقع بعض الناس في خطايا وزلات، فكل بني آدم خطاء، بيد أن من الناس من يفرح بالقبض على العاصي، وتأديبه علنا أمام الناس، وكأنه يرى ذلك غاية الانتصار، الشيخ العواد كانت نظرته مختلفة تماما، كان يتألم عندما يسمع عن إنسان ارتكب محظورا، ويعلم أن المعصوم من عصمه الله، وأن العبد قد يقع في الخطيئة بحكم جبلته، فالجنة حفت بالمكاره والنار حفت بالشهوات. كان إذا علم بأحد مقيم على معصية يدبر من يعلمه من طرف خفي بأن الهيئة علمت بأمره، وأنها قد تقبض عليه في أي لحظة، حيث يبادر العاصي إلى التخلص من أي أثر لمعاصيه. يذهب الشيخ بعدها للعاصي بنفسه يفتشه وقد علم خلوه من أي أثر، ثم يحمد الله علنا أنه لم يجد مما قيل عن الرجل شيئا، ويتنفس الرجل الصعداء أن انكشفت هذه الغمة، دون أن يلحقه عارها وجزاؤها، وتكون تلك اللحظة بداية توبة وإنابة وصلاح. هذا غاية ما ينشده الشيخ: أن يتوب الناس ويقلعوا عن المعصية، لا أن تنالهم العقوبة، ويلحقهم العار والتشهير، والشيخ يعلم أن الإنسان إذا انكشف عيبه، وافتضح أمره يستسهل المعصية بعد ذلك، ويسقط عنه قناع الحياء، فكان يتحاشى إيصال الناس إلى حال المجاهرة والمكابرة والإصرار.
مداهمة نبيلة
جاءه نبأ موظفين يجتمعون ليلا على منكرات في إحدى المزارع، فنهض بنفسه وذهب إلى مكانهم، طرق عليهم الباب فلما نظروا وعلموا أن القادم رئيس الهيئة، وهم يعرفونه شخصيا، طار صوابهم واعتراهم من الخجل والخزي ما لا يقدر قدره، فما كان منهم إلا أن رفعوا من كان بين أيديهم من دلائل الفساد، وهو ما جعل الشيخ ينتظر بالخارج قرابة ربع ساعة، حتى فتحوا له الباب فدخل وسلم على الجميع، وكأنه زميل جاء يشارك زملاءه سمرهم، وبعد أن اطمأن به المكان وسكنت نفوس القوم، قال لهم: تعسر عليّ نومي هذه الليلة وضاق صدري، وعلمت أنكم مجتمعون هنا، فقلت لنفسي سأذهب للزملاء وأشاركهم سمرهم، وأعتذر إذا كنت أتيتكم على غير موعد، ولكني عددت نفسي بين إخواني وأحبابي، فاجترأت على زيارتكم بلا موعد، فرحب به القوم غاية الترحيب، رغم علمهم أن الذي جاء به غير هذا، ولكن تقديرهم لنبله، جعلهم يعلمون أن هذا من الشيخ انتشال لهم من وهدة الفسوق والعصيان، وبعد مسامرة لبعض الوقت دعاهم الشيخ لتكون الأمسية القادمة في منزله، استجاب القوم لطلبه حياء، وكانت لحظة فارقة في حياتهم، حيث يقسم أحدهم، «أننا بعد ذلك ما اجتمعنا على شر وفساد»، فيا لها من حكمة وحسن تصرف، يكشف عن نبل وكرم.
نهاية المطاف الأول
بعد عناء السنين، ومكابدة مشوار الإصلاح، ترجل الفارس الكريم كريما، تنحى مبجلا محبوبا، فاستراح من الوظيفة، لكنه لم يترجل عن مهمة الإصلاح، لأنها تجري في دمه، وتخالط روحه، فظل آمرا بالخير، داعيا إليه، موئِلاً لكل طالب هدى أو باحث عن رشاد.
تقاعد الشيخ العواد من عمله الوظيفي في العام الثاني عشر بعد الأربعمئة وألف للهجرة، واعترافا من أعلى سلطة إدارية في المنطقة بفضل الرجل، وتقديرا لجهوده، كان أمير المنطقة حينها الأمير خالد الفيصل، على رأس المحتفلين بتكريم الشيخ، في ليلة مشهودة، ومحفل مهيب، ولا غرابة أن يصرح الأمير في تلك المناسبة، أنه طيلة مدة رئاسة الشيخ للهيئة لم ترفع إلى الإمارة قضية واحدة، بل كان الشيخ يعالجها بغاية الحكمة والصبر.
سيرة
-ولد الشيخ عبدالله العواد عام 1333 في الهلالية بالقصيم
-تلقى علوم الشرع على يد عدد من أشياخ وقته
-اعتنى بحفظ القرآن الكريم ودراسة السنة النبوية
-حاز قدرا كبيرا من الفقه في العبادات والمعاملات
-اهتم باللغة العربية وآدابها
-بدأ حياته بأعمال جهادية شارك فيها مع الملك فيصل في بعض العمليات العسكرية التي قادها
-عمل مع فرقة (الهجانة) التي كانت تجوب البلاد آمرة بالمعروف، ناهية عن المنكر
-عمل في (شركة الزيت العربية الأمريكية) (أرامكو)
-أعير لشركة (التابلاين)
-عاد لهينة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القنفذة عام 1372
-انتقل في منتصف عام 1377 إلى رئاسة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنطقة عسير