في نفس الوقت الذي استمعتُ فيه لرأي الدكتور حمزة السالم عن ماكنزي (وهو رأي مثير نوعاً ما) كنت أقرأ عن التجربة الإدارية الثرية لوزارة الكهرباء والصناعة في فترة التنمية الضخمة في بداية الثمانيات الميلادية، حول دمج أربعة وأربعين شركة كهرباء في منطقة الرياض والقصيم وما حولها.

كانت شركات الكهرباء حتى نهاية السبعينات الميلادية، شركات متناثرة ومتشرذمة وتملكها عدد من العوائل والأعيان، وكل مالك يكتفي بسكرتير واحد، ليدير له هذه الشركة الصغيرة التي تمد الكهرباء لعددٍ من البيوت والمنازل. وقد رأت القيادة أن هذا الوضع يجب ألا يتم، فقررت تحويل كل الشركات المتوزعة على خريطة الدولة السعودية إلى أربع شركات فقط. شركة موحدة لكل منطقة ما عدا المنطقة الشمالية وبعض القرى والهجر التي لا تدخل ضمن نطاق الشركات الأربع، فإنها تنضوي تحت مؤسسة عامة للكهرباء. هذه العملية التنموية الضخمة ابتدأت من لا شيء نوعاً ما، وفي عام الألفين اندمجت الأربع شركات والمؤسسة لتصبح كياناً ضخماً وقوياً اسمه (الشركة السعودية للكهرباء).

أعلم يا سيدي الفاضل أنك تبحث عن الخيط الرابط ما بين الموضوعين في هذا المقال. وأقول لك إننا اليوم نعاني من نفس موضوع التشرذم التي كانت تقوده العوائل والأسر والأعيان في المجال الكهربائي في ذلك الوقت. اليوم، نحن نعاني من حالة تشرذم في المجال الاستشاري والبحثي تقوده الجامعات السعودية الحكومية بمعاهدها المتعددة وبعض المكاتب الاستشارية الخاصة.

الكلام ليس على إطلاقه بطبيعة الحال، فمعهد الملك عبدالله بجامعة الملك سعود، معهد رائد ومدهش بلا شك. وكذلك معهد أبحاث الحج والعمرة في جامعة أم القرى. وفي هذه الفترة يبدع ويتجلى العمل الاستشاري البحثي فيما يقدمه المعهد الاستشاري لجامعة الأمير سطام بن عبدالعزيز. وأحد هذه التجليات فوزه في التأهيل لمشروع التحول لوزارة الصحة بجانب عددٍ من المكاتب الاستشارية العريقة والقديمة في هذا المجال.

ما الذي ألمّح إليه؟ أستطيع أن أقول إنني أعتقد أن فصل هذه المعاهد عن الجامعات ثم دمجها في شركات موحدة مرنة ومرتبطة بالتأمينات الاجتماعية سيعطيها بُعداً أكبر في مضامير النجاح. ومن الممكن استنساخ تجربة الشركات الكهربائية بحيث تكون كل معاهد وجامعات كل منطقة تدخل تحت تجمع واحد، مع الأخذ بالاعتبار تحسين المزايا المالية والرواتب للعاملين في هذه المعاهد المندمجة مع بعضها البعض، وذلك لزيادة التنافسية فيما بينها. وقد يمكن في مرحلة لاحقة أن تتحد تلك الشركات الاستشارية التجمعية لتكون شركة سعودية رائدة ومتقدمة على مستوى الوطن العربي والإسلامي تقدم خدماتها الاستشارية لكافة الدول العربية من حكومات وشركات ومؤسسات. أقول: أنا أجزم بأن هذا الأمر لو تم سوف يحرك العمل الاستشاري في المملكة وسوف يدفعه للأمام بشكل ضخم جداً.

النجاحات التي نراها اليوم في المعاهد الجامعية غالباً ما تكون مرتبطة بأشخاص محددين، حيث إنها أخذت قوتها من وجود هؤلاء الرجال على رأس قيادتها في فترات ازدهارها وانتعاشها. والخوف أن تركن للموت بمجرد رحيل أولئك القادة لمناصب أخرى داخل أو خارج جامعاتهم.

أعتقد أن دمج هذه المعاهد الاستشارية في كيانات لا تتعدى أصابع اليد الواحدة سوف يعطيها مرونة أكثر في اتخاذ القرارات، وكذلك سوف يعطيها مساحة أوسع لتقديم الاستشارات العلمية والعملية داخل وخارج الوطن، وبالتالي نضمن استدامة وتحقيق نجاحات واسعة في هذا المجال.

أيها السادة: تاريخنا التنموي في المملكة فيه دروس ضخمة جداً وعظيمة جداً، وتستحق من الباحثين الإداريين أن يتعمقوا في الغوص لاكتشاف تلك الدرر. ولكن من يعلق الجرس ويرعى أولئك الباحثين ويفرغهم ويجهزهم لعمليات الإبحار الإداري؟.