أعتقد أن من أسوأ الأشياء التي تحدث لأي أمة أن تكون أماكن التفكير والإبداع محبطة، مغلقة التفكير بيروقراطية وكئيبة. حتما سيختفي الإبداع والتقدم والرقي.

قبل فترة قابلت أحد أصدقاء الدراسة، كان شابا طموحا مجدا متفوقا، تخرج من الجامعة وأكمل دراسته العليا في الخارج. كان كما يقال مثل الوردة، نشيطا ومتفتحا، رجع وتعين في إحدى الجامعات. توقعت عندما لقيته بعد كل هذه السنوات، أن أجد أستاذا جامعيا يجمع الخبرة مع الإبداع والابتكار. بعد لقاء لساعات، تفاجأت وأصبت بالدهشة، وحاولت أن أكتم دهشتي حتى أستمتع باللقاء. للأسف صديقي تمت برمجته!. اختفى كل النشاط والأفكار، ورأيت أمامي شخصا نفس الشكل لكن كالببغاء يعيد الأفكار القديمة، هبطت ملكة التفكير لديه وأصبح يتكلم بطريقة شبه آلية مشبعة بالبيروقراطية، طريقة أشباه الصحويين، لم يصبح صحويا بعد، لكن العقل الباطن تأثر بشدة من طريقة الصحوة في التفكير، الطريقة التقليدية التي لا تحمل فكرا عميقا، ولا تخرج عن الحدود المرسومة لها ولا تحمل تساؤلات لماذا!. طريقة تشبه إلى حد ما طريقة الزومبي في الأفلام، طريقة رتيبة تمشي مع القطيع وتردد نفس الكلمات.

ليس هذا فقط، بل إن أسوأ ما في طريقة التفكير الصحوي الباطني، أنهم يستخدمون نفس الحجج القديمة المهترئة، نفس الأسلوب الصحونجي الذي لا يعتمد على الفكر بل على الفهلوة، ويعتقدون أن حججهم قوية ومقنعة، مع أنها حاليا لا تقنع طفلا من الجيل الحالي. حاولت مسايرته في الحديث بدبلوماسية وابتسامة لأن اللقاء كان لقاء أصدقاء بعد زمن وليس من المستحب إظهار الصديق بأن تفكيره عاجز أو عفى عليه الزمن، والأدهى الثقة التي يتكلم بها من تأثر عقله الباطن بالتفكير الصحوي، مع أنك لو أخذته ولو بمقدار بسيط خارج الأطر والحدود التي تعود عليها وحفظها يضيع كليا!، لأن الطريقة الصحوية تعتمد على التلقين وليس التفكير والارتجال، على العموم لو علمّ الصحويون جيلهم طريقة التفكير والنقد، لما أصبحوا صحويين من الأساس ولما وجدوا لهم اتباعا.

في نهاية اللقاء سلمنا على بعض وكانت فرصة جميلة بعد سنوات أن نرى صديقا، وكنت أغلب اللقاء أحاول أن أكون مستمعا جيدا، لم أرد أن أخرب اللقاء بالنقد أو ربما كنت متفاجئا، كيف يتغير الإنسان من التفتح إلى أفول الفكر في الجامعات!!.

لا أستطيع أن أضع كل اللوم على صديقي، لأن جزءا كبيرا يقع على أجواء بعض الجامعات السعودية وبيئتها. عندما يبقى الشخص لسنوات في جو ملوث ببقايا الصحوة، فإن عقله الباطني يتأثر ويتلوث، بيئة طاردة للتفكير والإبداع، تنتج جيلا أشبه بالروبوتات، وللأسف أصبح بعض الأساتذة الجامعيين يشبه الروبوتات في الكلام والتفكير، لدرجة أنك مع الوقت إذا رأيت شخصا يتكلم ربما من طريقة كلامه وتفكيره ممكن تقول «الأخ أستاذ جامعي؟!» وأعني البعض بالطبع!.

من الذي أنتج جيلا من الأستاذة الجامعيين الروبوتات، هل هي الصحوة، أم إدارة بعض الجامعات التي فشلت في رفع مستوى وتطلعات الجامعات؟ كيف يدخل للجامعات أناس مميزون، متخرجون من أفضل جامعات العالم، وبعد سنوات يصبحون كأنهم (هياكل عظمية وإنيميا فكرية) من قلة التفكير والإبداع؟! أليس من يقود الأمم هم مفكروها وأساتذتها؟. مشروعنا التنموي الأكبر (الرؤية) يعتمد على الإبداع والتفكير الخلاق والانفتاح على العالم، وليس على الانغلاق والبيروقراطية، كيف لبعض جامعتنا أن يتواءم مع فكر الرؤية؟، فالرؤية عمل وفكر وإبداع وليست شعارات.

كما هي عادة سيدي الملك سلمان ينظر للأمور نظرة بعيدة وإستراتيجية، وافق على تشكيل أول مجلس لشؤون الجامعات في السعودية، فعلا بعض الجامعات ما زال غير ناضج وغير مستعد أصلا وإداراته غير كفؤة للاستقلالية التامة، منذ سنوات ونحن نقول إن الجامعات تحتاج تغييرا جذريا في إدارتها، لكن للأسف البعض كان يعتقد أن استقلالية الجامعات تحل كل المشاكل، بل هي قد تزيد الطين بلة في الوضع الحالي لبعض إدارات الجامعات، وجاء إنشاء هذا المجلس خطوة مهمة جدا في هيكلة الجامعات وإقرار تغييراتها في عدة نواح.

أتمنى جدا أن أرى تغييرا جذريا وشبه كلي في إدارات الجامعات السعودية، هذا الجيل قدم كل ما لديه، نحتاج إلى وجوه جديدة تدفع الدماء في عروق الجامعات، ولا زلت أعتقد أن تعيين رؤساء تنفيذين للجامعات من الكفاءات العالمية، أمر مستحب وتكون وظيفة مديري الجامعات إشرافية وبروتوكولية.

أعتقد أننا هنا نبحث عن مصالح وما يفيد الوطن، وأعتقد أننا نضجنا وكبرنا عن قول إن مجلس الجامعات هذا يثبت وجهة نظرنا، ولسنا هنا للتشفي من أي كان فهذه أفعال طفولية، لأن الهدف من كتابة المقالات مصلحة البلد بغض النظر عن «من هو الذي تؤخذ أفكاره». بعض الإخوة كان يعتب ويقول إني ضد استقلالية الجامعات، وإنه يجب أن تستقل الجامعات عن الوزارة بشكل شبه كلي، وأنا كما كتبت مرارا، كنت أريد أن تبقى الجامعات تحت إشراف الوزارة أو هيئة مركزية. كان لدي شعور قوي بأن القيادة لها نظرة أبعد جدا من إعطاء استقلالية شبه كلية لجامعات لم تنضج بعد، ولا تملك إداراتها المؤهلات لتديرها بكفاءة، وحتى مشروع الجامعات بدأ بثلاث جامعات فقط للتجربة والتعديل والنضج، وكما قلنا مررا، إنه لا يمكن جلب النظام الأجنبي وتطبيقه فجاءة دون تكييف (القص واللزق لا يفيد)، وما يناسب الخارج قد لا يناسبنا. استقلالية الجامعات قد تكون فكرة جميلة جدا، نحن تخرجنا من جامعات بالخارج كانت مستقلة، لكن الظروف مختلفة والوقت، وبعض الإدارات الحالية في جامعاتنا قد لا تتناسب مع ما يطبق في الخارج.