أثار مقطع متداول في الفترة الأخيرة تساؤلا عن دلالة وقيمة العصا في الثقافة العربية، وظهر في المقطع الصوتي سائل يستفتي الناس عن عادات العرب بقوله: إذا عزمت رجلا ليس هو ضيف الشرف لكن عزمته على كرامة عندي وقبل العشاء بنصف ساعة أرسل ابنه ومعه عصا ويقول هذه عصا أبي، ويعتذر منك جاءه ضيوف، قال العازم أبشر بالعوض وهذه عصا أبوك أرجعها له، قال الولد: أبي حالف من العصا لن ترجع له، فما الحل والسلوم التي من المفروض أن يرد بها الرجل ؟

وتناثرت الردود الرافضة والمستهجنة والساخرة من هذا الفعل إلى أن جاء رد من نفس الثقافة يشرح الرد يقول:

طبيعي عدم قبول الولد للعصا، فالمفروض أن المضيف دهن العصا بالشحم وأعطاها الولد وقال معزز مكرم وما طلب أنا حاضر.

فماهي دلالة العصا في الثقافة العربية؟ وهل انتهت أو ما زالت باقية؟

أسماء العصا

سميت العصا عصا لصلابتها؛ مأخوذة من قولهم عصّ الشيء إذا صلب واعتصت النواة إذا اشتدت، ولها أسماء متعددة، فتسمى: الهراوة، والمنسأة، والمحجنة: وهي العصا المعوجة، والمخصرة التي أعطاها الرسول -صلى الله عليه وسلم- لعبدالله بن أنيس الجهني، وقال: تلقاني بها في الجنة، والدبوس: وهي العصا في رأسها عجرة، والمقرعة، والعجراء، وجاء أعرابي للحطيئة وقال له: ما عندك يا راعي الغنم؟ أجاب الحطيئة: عجراء من سلَم، قال: إني ضيف، أجاب: للضيفان أعددتها، والقضيب، والخيزران، والقناة، والعكازة.

أمثال العصا

ضربت العرب بالعصا الأمثال فالعصا مثل يضرب للجماعة، يقال فلان شق عصا الجماعة والمسلمين، وألقى الرجل عصاه إذا استقر بالمكان، وانشقت العصا إذا اختلفت آراء العشيرة، ولا يقرع بالعصا أنفه: لا يهان، وعبيد العصا: الناس الذين ينقادون لكل أحد.

أشهر من استخدمها

اتخذ سليمان بن داود العصا لخطبته وموعظته ولما مات ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته، وعصا موسى ضرب بها البحر فانشق ولقفت ما ألقاه سحرة فرعون، وأول من خطب على العصا وعلى الراحلة قس بن ساعدة الإيادي.

يقول الجاحظ: ولأهل المدينة عصيّ في رؤوسها عجر لا تكاد تفارق أكفهم إذا خرجوا إلى ضياعهم ومتنزهاتهم ولهم فيها أحاديث حسنة وأخبار طيبة.

وقال الشاعر الجاهلي الأعشى:

لسنا نضارب بالعصيّ ولا نقاذف بالحجارة

وأول من قرعت له العصا ذو الحلم عامر بن الظرب العدواني كان حكيم العرب في الجاهلية، ولما كبر في السن وبدأ يخلط في الحكم فقال لأولاده إذا أخطأت اقرعوا الجفنة بالعصا فأعرف وأرجع لحكم الصواب.

جواز سفر ودليل وجاهة

إلى قريب كانت العصا تعد من أكثر المقتنيات المرتبطة بالرجل قديمًا وحاضرًا، ولها مكانة كبيرة في نفوسهم وتعبّر عن السلطة والجاه من جهة وعن نمط عيش وثقافة من جهة أخرى، فهي عصا الراعي بمفهوميه؛ راعي الغنم وراعي الناس حاكمهم ورئيسهم.

ويؤكد متعب محمد الشمري خبير البادية أن العصا لها مدلولات قديمًا فكان شيخ القبيلة له عصا مميزه تعرف بين أفراد القبيلة وحتى القبائل الأخرى، ونوه متعب الشمري بأن العصا قديمًا مرتبطة وجدانيًا بصاحبها بل إن هناك من خاطبها شعرا، ونسج فيها أبيات عديدة، ولا يقتصر استخدامها على الاتكاء، أو إضافة جانب من الهيبة لمستخدمها بل لها مدلولات عدة، فعندما يمنحها الشيخ لأي شخص فتعتبر جواز سفر، ووثيقة عبور، فمن يحمل يضمن عدم الاعتداء وفي أمان حتى يصل مبتغاه كونه حمل أهم المقتنيات الشخصية، وأيضا من يحملها له حق أن ينوب أو يقوم مقام مالكها الرئيسي.

وفي وقتنا الحاضر تتنوع أشكال العصي وطرق استخدامها تبدلت.

نجران

في منطقة نجران، تحتل العصا مكانة كبيرة، وفقا للمواطن حمد بن حسين، الذي أكد لـ»الوطن» أن أهم ما يميز العصا في الثقافة النجرانية هو أنها تعتبر رمزا للرجولة. وأضاف: قديما لا تجد رجلا يمشي في أي مكان إلا والعصا معه، ففيها الكثير من الفوائد وتعني الشيء الكثير لكل رجل، فهي تنفعه في جميع شؤون حياته، فضلا عن أن كثيرا من الناس كانوا يعملون في رعي الأغنام أو الإبل.

وتابع بن حسين حديثه عن العصا قائلا: في الثقافة النجرانية فإن العصا لها علاقة بالكثير من العادات القبلية التي كانت متبعة قديما، وربما لم يعد لها أي وجود الآن. ومن ذلك أن العصا كانت تمثل الشخص نفسه، بمعنى أنه لو استجار بك شخص ما وطلب منك المكوث في حماك، ومن ثم أراد الذهاب إلى مكان ما وكان خائفا، كان القدماء يعطونه العصا ويجعلونه يذهب للمكان الذي يريده وهو يحس بالأمان، ويقول إذا اعترضه أحد ما أن عصا فلانا ابن فلان تمشي معه فلا يستطيع أحد النيل منه أو قطع طريقه.

ومن الفوائد الأخرى للعصا في الثقافة النجرانية أنها رفيقة أثناء السفر ورفيقة أثناء الخروج في الليل، فضلا عن استخدامها والتفاخر بها في الألعاب والألوان الشعبية كالزامل والرزفة وغيرهما.

الجنوب

العصا في بلاد بني شهر وفي قبائل الشعفين تحديدا كانت من كمال الرجولة واللباس فلا يخرج في الغالب رجل من بيته قديما أو المرأه للرعي إلا وفي يده أو بيدها عصا فكانت مثل السلاح الخفيف لا يفارق من يخرج من البيت سواء للرعي أو السوق أو إلى وليمة أو إلى أي مكان.

ويقول الشاعر سعيد آل عباس الشهري، إن العصا كانت قديما من كماليات الرجل مثلها مثل الحزام والجنبيه؛ حيث تكثر في القرى والمزارع الثعابين والذئاب فتكون العصا بمثابة سلاح خفيف للدفاع عن النفس أو قتل الثعابين.

وهناك مسمى آخر للعصا إذا كانت طويلة فتسمى في بلاد بني شهر وبني عمرو (المحواش) وغالبا يستعمل المحواش كبار السن حيث يساعدهم على المشي وحوش الأغنام أي توجيهها إلى المكان المراد.

حجز العصا لإكرام الضيف

النسبة للعصا ففي بعض قبائل الجنوب كقبيلة شمران لها مداولات وتقاليد يجب مراعاتها، ومن ذلك عند وصول ضيوف من قبيلة أخرى وفدت على قبيلة مستضيفة لهم، فإن بعض المستضيفين يحرص على أخذ عصا صديقه من الضيوف الذين سيتوزعون على جميع أفراد القبيلة المستضيفين، فهو بذلك يضمن حجزه للضيف، وعندما يرغب شخص آخر في اصطحابه لإكرامه يقول عصاتي محجوزة لدى فلان، مما يعني أن مكانه محجوز لدى المضيف الذي يكن له محبة وتقديرا خاصا جعلته يحجز عصاته ليضمن حضوره لديه كضيف.

الرسم وإنهاء النزاعات

يقول أحمد الشهري (80) عاماً، إن العصا يستخدمها شيخ القبيلة وأعيان القبيلة في الماضي عند حضور مجالس الصلح والتجمع في العراء، فنجدهم يشيرون إلى المتخاصمين ويركزون على المخطئ بشكل ملحوظ، ويستخدمه المصلح أيضا في الرسم على التراب والتخطيط بها خاصة في أمور ونزاعات الأراضي والمزارع.

وكانت الخيزران تستخدم في جلد المساجين في الأسواق الشعبية وخاصة سوق الاثنين بالمجاردة، حيث يحضر العسكر ومعهم السجناء المحكوم عليهم بالجلد (ويسمى أيضا الفرش) ويمسكونه العسكر ويجلدونه على ظهره أمام المتسوقين الذين يتجمعون للمشاهدة، أما الآن فلم نعد نشاهد مثل هذه الأمور.

وفي المزارع تستخدم للحماية من الزواحف وخاصة الثعابين. ويستخدمها الشيخ المطوع (إمام وخطيب الجمعة والعيدين) عند صعوده للمنبر للخطبة.

ويواصل الشهري بقوله، وللعصا استخدامات أخرى فهي تستخدم في العرضة، وفي المضاربات (وتسمى المشعاب أو القطلة) علاوة على استخداماتها في الرعي.

العصا لإحضار شخص

الوالد حسن أحمد السيد يقول في الماضي كانت الشرطة أو أمير المنطقة (المحافظ حالياً) كان يسمى أميرا، إذا أراد طلب أو حضور شخص ما، فإنه يرسل إلى شيخ القبيلة أو عريف القبيلة، وهو بدوره يرسل عصا صغيرة تكون بجواره دائما، وعليها وسم خاص تسمى (النقف)، وعندما تصل إلى الشخص المطلوب يحضر فورًا لشيخ القبيلة أو عريف القبيلة ويخبره بمن يطلبه ويوجهه في الأمر.

وفي تهامة قحطان، يرسل المضيف على جاره أو من يرغبه، ومن كان لديه ظرف أخذ لحما ووضعه في (عصا) لمنزل المعتذر، وكأنه يرفع اللحم بالعصا كنوع من التشريف والتكلف والتكريم للضيف الغائب.

قيمة وظيفية في الحجاز

تتنوع أشكال العصي في منطقة الحجاز وتستخدم في عدة استعمالات منها الدفاع عن النفس أو النزالات الاستعراضية أو الترفيه عن النفس (في الأفراح والمناسبات) وحتى توجد أنواع من العصي استخدمت وعُرفت لتسييس البهائم، وحول معرفة أجود أنواع العصي وأكثرها شهرة قابلت «الوطن» العم علي غالب، أقدم معلمي العصي الموجودين حاليا بباب مكة في مدينة جدة، والذي قال إن العصي أنواع منها البسطون «العكاز» ذو عكفة في المقبض ويستخدم عادة من قِبل كبار السن للتوكّؤ عليه وعصاية المزمار نوعان الأول «المِرْود» وهو عبارة عن عصا نحيفة وتستخدم أثناء المناسبات في الرقص والاستعراض والأخرى العود أو «الشون» وهي العريضة وتعد من أجود وأهم أنواع العصي وتستخدم عادة في «الغشنات».

طريقة الصنع ونوع الخشب

أوضح العم علي أن الشون يصنع عادة من الخشب السويدي، وعادة ما كان يأتي الشون وبقية العصي من مصر، لكن حاليا قلت العصي بشكل كبير، ويتم تلبيس رأس الشون أو ما يقارب 50 سم من بداية الجون «بالجُلْبة» وهي عبارة عن جلد البقرة ويؤخذ من منطقة الذيل، وتساعد في تماسك الشون وتزيد من متانته، تابع العم علي: (يكون عادة الخشب المستخدم في صناعة العصي من خشب شجرة الخرنوب -وهو الأكثر استخداما- أو خشب اللوز أو الجوافة)، ويقومون بتشكيل العصي بالمخرطة، ويتم تحنية العصي بعد تشكيلها بالحناء التي يتم عجنها بالشاي ثم يتركونها في الشمس حتى تجف.

كما قال العم علي، إن أغلى أنواع العصي وأجودها هي عصا المزمار بنوعيها، والذي يستخدم فيه خشب الخرنوب لقوّته وتحمله حيث تؤخذ عصا الشون بعد تشكيلها وتوضع في أنبوب «ماسورة بلاستيكية» ويكون مُذابا فيه ليّة الخروف أو الشحم (سمنة) وتترك عصا الشون أو المِرْوَد (فقط هذان النوعان) في هذا الأنبوب، وتُغلق لمدة تتراوح من شهر إلى شهرين ثم نخرجها وتترك في الشمس وتكون حينها قوية جدا وغير قابلة للكسر مطلقا.

تابع العم علي: يوجد البعض من الأشخاص يقومون بكتابة تواريخ على الشون واسم صاحب الشون، حيث إن الشون قد يكون صاحبه متوفى من سنوات عديدة لكنه محفوظ عند الأحفاد، كما أوضح العم علي وجود أنواع أخرى من العصي مثل «البُمبة» العريضة أو النحيفة التي كانت تأتي من الهند وهي شبيهة بالشون، كما يوجد ما يسمى بالشوحط والذي يكون عبارة عن عصا نحيفة جدا لكنه متين ولا يكسر بسهولة، ويصنع من خشب من أشجار منطقة الحجاز فقط، ويستخدم الشوحط عادة لتسييس البهيمة وتسييرها، كذلك عصا المشعاب والتي لا تكون إلا من خشب لشجر ينمو في الحجاز مثل الطائف أو الباحة أو بلجرشي.