في مكان ما وعلى بعد حوالي 8 آلاف كيلومتر من مسقط رأسيهما، تعرّف أحد السياح على سائح آخر من جنسيته، ويسكنان مناطق متجاورة في ديارهما، وبمجرد التعارف الذي لم يتجاوز ساعة زمن، بدأ كل منهما يتحدث مع الآخر وكأنه يعرفه منذ عقود من الزمن.

كان شباك الحديث مفتوحا على مصراعيه نحو سماءات الاعتراف والفضفضة، التي وصلت إلى ما داخل القلوب من مشاعر الحب والكره، وكيف أن فلانا صدق، وكيف أن فلانا سرق وكذب، والغريب أن كليهما لا يعرف من يقصد الآخر، ولكن بالوصف والتدقيق والتمحيص بدأ كل منهما يقرب الصورة للآخر.

وبعد أن استأذن كل منهما الآخر في مغادرة مكان اللقاء «غير المنسق»، ذهب كل منهما يحسب كلامه بدقة وتفصيل، ويعيد شريط الحوار، وبدأ كل منهما يتمنى أن يستخرج «برنت» من المباحث العامة والخاصة وأمن الدولة، عن جليسه هذا، ليعرف مكان سكنه ويعرف من المقصود بـ«فلان اللي ضربته»، و«فلان اللي كان خاطب فلانة».

بعدها بأيام، شاءت الصدف أن يتقابل هذان السائحان في مسقط رأسيهما، فأصبح كل منهما يغطي وجهه بالغترة نوبة وباليد نوبة أخرى، ليطوّف كل منهما الآخر بلا لقاء أو كلام أو حتى «سلام».

السبب، أن داخل كل منا كلمات وفضفضات لا بد أن نخرجها من أفواهنا، لترتاح من كتمها صدورنا، فتخرج تلك الكلمات ونشعر كأن عقولنا تتسع وصدورنا تنشرح بعد خروج ما كان يشبه المشد الضاغط على شريط حياتنا.

ولكننا نخشى من استخدام هذه الكلمات ضدنا في وقت لاحق، فتكون فضفضاتنا لأصدقائنا أو أقاربنا أو حتى أحبابنا، لا تخرج كاملة بكل ما أدمته داخل صدورنا، لأنها فضفضة في حدود «المعقول».

السؤال هنا: ما دام أن هذه الفضفضة قد تكون علاجا، حتى وإن كان مؤقتا لبعض التشتت والسرحان الذي نمر به، فهل من الممكن أن يذهب أحدهم ليتعرف على رجل مجهول بالنسبة له، ويتقابلان وكل منهما مُلثّم الوجه، ويجلسان وكل منهما «معطي قفاه» للآخر، ويبدأ كلا منهما بفضفضاته العميقة، وبعد الانتهاء من هذه الفضفضات يترك كل منهما الآخر، دون أن يعرف عن صديقه أدنى معلومة، سوى ما فضفض كل منهما به للآخر، فهل تعتقد أنه سيأتي يوم وتجد من يقول لك: «أحتاج صديقا لم ولن يعرفني!».

زاوية الدائرة