عند الحديث عن الشخصيات البارزة علميا وفكريا التي تنتمي أصولها لثقافة ما وتعيش وتبدع في أحضان ثقافة مختلفة، فأول اسم تبادر لذهني وزير خارجية الولايات المتحدة السابق هنري كيسنجر، ذو الأصول اليهودية الألمانية الذي انتقل في صباه للولايات المتحدة هو وأسرته، وخدم الجيش الأميركي خلال الحرب العالمية، وليس من المبالغة القول بأنه يعتبر من أكثر الشخصيات السياسية تأثيرا في السياسة الأمريكية في القرن العشرين، فقد حظي بمكانة هامة كخبير في شؤون الدفاع والأمن القومي، وعمل مستشارا لعدة رؤساء أمريكيين مثل أيزنهاور وكنيدي وجونسون، فكان واحدا من أهم مستشاري الخارجية الأكثر نفوذا ونشاطا، وحظيت تحليلاته الإستراتيجية بأهمية بالغة عند صانعي القرار في الولايات المتحدة.

ولا شك أن نسب هذه المكانة السياسية الهامة لكيسنجر لأصوله الألمانية والبحث عن تأثير المكون الألماني في فكر وعقلية كيسنجر أمر لا طائل من ورائه، فليس من المنطق القول إن العقلية الألمانية ساهمت - من خلال هنري كيسنجر- في نجاح السياسة الأمريكية في بعض الملفات الدولية الهامة، وعلى رأسها تحسين العلاقات الأمريكية بالكتلة الشرقية وعلى رأسها قطبا الشيوعية الاتحاد السوفيتي والصين، التي كان بطلها الخبير كيسنجر.

إن طريقة تفكير كيسنجر وأولوياته وإدراكه للمصالح الأمريكية تنطلق من كونه منتميا للثقافة الأمريكية، وابن من أبناء الحضارة الأمريكية، وليس لأصوله الألمانية أي دور في ما حظي به من مكانة، ومن السذاجة بطبيعة الحال القول بأن العرق اليهودي والعبقرية اليهودية هما المحفز لعبقريته السياسية.

إن بروز المثقفين والمفكرين اليهود في الولايات المتحدة لا يعود لكونهم يهودا أو ألمان بل يعود لكونهم أمريكيين يعيشون داخل إطار الثقافة الأمريكية ويحملون قيم ومبادئ الحضارة الأمريكية بغض النظر عن أصولهم وعرقياتهم، كما أن داخل هذه الحضارة علماء عربا متفوقين علميا من أصول مصرية وفلسطينية، ولكنهم مواطنون أمريكيون لا ينسب نجاحهم لأصولهم العربية، بل ينسب للبيئة العلمية المحفزة التي عاشوا تحت مظلتها في إطار الحضارة الغربية، ولو قدر لهم أن يستمروا بالعيش في بلدانهم الأصلية فقد تجهض مواهبهم وإبداعاتهم العلمية والفكرية.

ما يقدمه الأمريكي علميا أو فكريا أو فنيا - سواء أكان يهوديا أو عربيا أو ألمانياً أو إيطالياً أو إيرلنديا أو هندياً داخل إطار الثقافة الأمريكية فهو ينسب للحضارة الأمريكية وليس لغيرها، فكلهم يبدعون بصفتهم مواطنين أمريكيين. وما ينطبق على أبناء الحضارة الأمريكية ينطبق على أبناء الحضارة العربية الإسلامية من المبدعين والمفكرين وأصحاب النتاج العلمي والأدبي والفلسفي، فكلهم عرب ينتمون للثقافة العربية، فالعروبة ليست عرقا أو جنسا، بقدر ما هي ثقافة ولغة، واللغة العربية منذ عصر البعثة النبوية حتى سقوط الأندلس، كانت لغة العلم والثقافة ولغة الدين ولغة التداول الاجتماعي. كانت هي اللغة المهيمنة ولا وجود لأي ثقافة منافسة لأن اللغة العربية -لغة الثقافة- كانت مكتسحة لأدق تفاصيل الحياة، ووجود أي لغات أجنبية داخل مجتمع الحضارة العربية الإسلامية يكاد يكون معدوما، مما يعني أن القول بوجود تنوع ثقافي هي مقولة تحتاج مراجعة، واللغة العربية في المجتمع العربي كحال اللغة في المجتمع الأمريكي، فالإنجليزية في المجتمع الأمريكي هي لغة التداول في كل مجالات الحياة، واللغة كما نعرف هي المعبر الرئيس عن الثقافة.

إن العباقرة اليهود مثل سبينوزا وماركس وفرويد وأينشتاين وغيرهم قد حققوا إنجازاتهم العلمية والفكرية داخل سياق الحضارة الغربية وليس داخل سياقهم اليهودي، وموسى بن ميمون العالم اليهودي الأندلسي الذي عاش داخل سياق الحضارة العربية الإسلامية ومن خلال تفاعله مع التراث الإسلامي نضجت عبقريته فاصطبغت يهوديته بصبغة إسلامية واضحة.

لقد كانت الحضارة العربية الإسلامية حضارة متفوقة علميا وأدبيا، وبالتالي بإمكان أي شخص ينتمي لها أن يحقق كل إمكانياته الفكرية والإبداعية، فالجاحظ على سبيل المثال ومع أن أصوله غير عربية ولكنه أفرد كتابه الشهير «البيان والتبيين» للدفاع عن الثقافة العربية والذود عنها ضد هجمات الشعوبية، ويعني هذا أن الجاحظ عربي ومنتم للثقافة العربية التي لم تكن يوما ثقافة عرق أو جنس، وللأسف إن أغلب من يفصلون العروبة عن الجاحظ وسيبويه والجرجاني وابن جني وابن سينا يفهمون العروبة فهما عرقيا، وفي نفس الوقت ينظرون للنقاء العرقي كونه أسطورة ووهما.

إن معيار التصنيف بين الأمم والشعوب داخل سياق الحضارة العربية والإسلامية أو سياق الحضارة الأمريكية، يجب أن يكون الثقافة وأهم أدواتها «اللغة» فالجاحظ وسيبويه عربيان لأنهما ببساطة يعيشان داخل سياق الحضارة العربية ولديهما انتماء صريح للثقافة العربية، فهما لم يأتيا للمجتمع العربي بصفتهما خبيرين ومستشارين تنتهي علاقتهما مع المجتمع بانتهاء مهمتهما، بل وجودهما في هذا المجتمع، وجود انتماء ثقافي ولساني بكل ما تعنيه الكلمة، فلم يكن هناك دور للعجم «غير العرب» في تأسيس الحضارة العربية الإسلامية، لأن التاريخ يشهد بأن اللغة العربية كانت مسيطرة على كل مجالات الحياة، ولم يكن هناك أي دور لأي لغة أعجمية «غير عربية» داخل سياق مجتمع الحضارة العربية الإسلامية.