لطالما شغلتني القضية الأخلاقية التي تتمحور حول من يقوم بأعمال العنف والقتل والهمجية، تحت مسميات مختلفة، وهي لأي إنسان خارج دائرة الحدث تعدّ تطهيرا عرقيا أو قتلا جماعيا أو سلوكا همجيا وحشيا!.

هل بالإمكان أن نقوم بأذى فرد لا نعرفه أو حتى نعرفه، بناءً على أوامر؟، هل يمكن أن يتخلى الإنسان عن قيمه وأخلاقياته، بل حتى إنسانيته في ظروف معينة؟ هذا ما سعى إلى معرفته العالم النفسي ستنالي مبلجرام، من جامعة ييل في أمريكا مع مطلع الستينات من القرن الماضي.

لقد أجرى تجربة كان محورها التركيز على الصراع بين طاعة السلطة والضمير الذاتي، بمعنى أن الهدف كان البحث عن المدى الذي يمكن أن يذهب إليه الناس في تنفيذ أوامر تنطوي على إيذاء أشخاص آخرين.

تم اختيار العينة للتجربة، من خلال الاستجابة لإعلان في الصحيفة اليومية، وكانت عينة التجربة الأولى من الذكور، من عدة شرائح من المجتمع المحلي للجامعة، وكانوا 40 رجلا تراوح أعمارهم بين 20 و50 عاما، وتنوعت وظائفهم بين مهنيين ومتخصصين ومحترفين، وتلقى المشارك مبلغا زهيدا من المال جراء الحضور أو المشاركة.

التجربة كانت عبارة عن إقران مشارك «معلم» مع شخص آخر «متعلم»، وهذا الآخر هو من المتعاونين مع الباحث، بحيث تقع دائما عليه القرعة كي يكون المتعلم، دون معرفة من سيكون المعلم بالطبع، وكان من المفترض أن يحفظ المتعلم قائمة من الكلمات، ثم يتم امتحانه من المعلم بتسمية كلمة، ويطلب من المتعلم أن يتذكر الكلمة المقابلة من قائمة تضم 4 خيارات ممكنة، بعد أن يتم وضع كل منهما في غرفة، بحيث لا يرى أحدهما الآخر، بل يسمعه فقط، ويوضع أمام المعلم جهاز التحكم بصاعق كهربائي يتدرج من 15 فولت إلى 450 فولت، وفي الغرفة الأخرى من المفترض أن يكون المتعلم قد تم تعليق أقطاب كهربائية على ذراعيه، وخلف المعلم يجلس المختبر، ممثل السلطة هنا، ليراقب ويسجل النتائج، وهو يرتدي معطفا رماديا، ويبدأ المعلم بسؤال المتعلم، وكلما أخطأ من المفترض أن يحرك المفتاح ليتلقى صدمة، ويزداد مستوى الصدمة كل مرة، والذي حدث أن المعلم كان يعطي إجابات خاطئة عن قصد، ويبدأ المتعلم بالتذمر ثم إطلاق صرخات الألم طالبا من المعلم أن يتوقف، وعندما يرفض المعلم أن يستمر، كان على المختبر إعطاء سلسلة من الأوامر: يرجى المتابعة، التجربة تتطلب منك المتابعة، من الضروري أن تستمر، لا يوجد لديك خيار آخر سوى المتابعة.

النتيجة كانت أن ثلثي المشاركين من المعلمين وصلوا إلى أعلى مستوى من صعقات الكهرباء، أي 450 فولت، وأن جميع المشاركين وصلوا إلى 300 فولت، بالطبع لم يكونوا مرتاحين، وتم رصد حركات وسلوكيات تنم عن ذلك، مثل التعرق وفرك الأيدي والضغط على الكف بالأظافر وما شابه ذلك، بينما ثلث العينة رفض أن يكمل بعد ذلك، أي بعد أن وصل إلى مستوى 300 فولت، رغم أوامر المختبر بأن يستمر.

وما استنتجه مبلجرام أنه من المحتمل أن يتبع الأفراد العاديون الأوامر التي تصدرها شخصية ذات سلطة، حتى إلى درجة قتل إنسان بريء، ويوضح أن طاعة السلطة متأصلة فينا جميعا، بسبب الطريقة التي نشأنا عليها، فالناس يميلون إلى طاعة الأوامر من أشخاص آخرين، إذا اعترفوا بسلطتهم على أنها حق أخلاقي أو قانوني، فيتم تعلم الاستجابة للسلطة الشرعية في مجموعة متنوعة من المواقف، على سبيل المثال في الأسرة والمدرسة ومكان العمل.

هنا، اتضحت لي أيضا مواقف أخرى كانت تحيّرني، مثلا كيف يقوم أحدهم بتنفيذ قرارات جائرة في حق موظفين زملاء له في العمل، وهو يعلم تماما أنها ليست في مصلحتهم، وقد تتسبب في إيذائهم معنويا وماديا، بل قد تكون دون مرجع قانوني وظالمة، لمجرد أن رئيسهم قد أصدر قرارا بذلك، ويصر على التنفيذ!. يقوم الأفراد بتنفيذ الأوامر وهم في ضيق، ولكن ضمائرهم مرتاحة لأن من سيتحمل مسؤولية القرار وتبعاته هو المصدر الرئيسي، وليس هم!

كما حدث عندما قام مبلجرام -فيما بعد- بإجراء بعض التغييرات لظروف التجربة، عندما أعاد تنفيذها في مناطق أخرى، فحين تأكد المعلم أنه ليس المسؤول عن النتائج، استمر، وحين خرج المختبر من الغرفة تم التلاعب بنسبة الصواعق من تخفيف تعديها، وحين دخل شخص آخر بلباس عادي غير اللباس الرسمي انخفض معدل تنفيذ الأوامر، بمعنى أن الضمير يرتاح طالما أن هنالك من سيحمل الذنب إلى جانب المسؤولية، والتلاعب يحدث حين لا تكون السلطة موجودة!، وعليه يخرجون من الحدث ذاته وهم يشعرون بالتأثر، ولكنهم مرتاحو الضمير، لأنهم -حسب رؤيتهم- أبرياء!.

لنفكر للحظة ونجِب بصدق، كم مرة قمنا بتنفيذ أوامر ونحن نعلم أنها ستؤدي إلى أذية الآخر؟ ولكن لعلمنا بأننا كالعبد المأمور نقوم بها، لأن هنالك من سيتحمل وزرها وليس نحن، بالطبع حسب تحليل ضمائرنا للموقف؟ هل نحن في حينها مذنبون أبرياء، أم أبرياء مذنبون، أم مجرد أبرياء؟

لا أحكم ولا أدين، إنها مجرد دعوة إلى التأمل والتفكير!.