في الثلاثين من يونيو عام 2009، قامت الدنيا ولم تقعد. الإعلام والأضواء يتحولان إلى منتدى دافوس سويسرا. الحدث.. الرئيس التركي رجب طيب إردوغان ينسحب من اجتماع دولي، احتجاجا على قصف جويّ طال غزة، على يد سلاح الجو الإسرائيلي. الآلاف من أنصار الرئيس خرجوا لاستقباله استقبال الفاتحين على أرض مطار أنقرة الدولي، بعد ذلك الموقف.

شكلت جهات إعلامية حينها دور ضابط الإيقاع. أخذت بالتطبيل تكريسا لشهامة من يسيرون في فلكه، ويرونه زعيما روحيا فاتحا، لهم ولحكامهم. القصد هنا «مرتزقة» قناة الجزيرة، والطغمة الحاكمة شرق سلوى.

بعد مضي سنوات، تبين أن الفاتح والزعيم الروحي لم ينسحب من أجل غزة. بنفعيته المعهودة، صمت «مستفيدا» من الموجة الإعلامية التي وصفته بالبطل العظيم. ركب وقفز في الوقت ذاته على حدث النيران التي وُجهت لقطاع فلسطيني، يحكمه من يتوافق معهم «أيديولوجيا»، حيث حركة حماس الإخوانية الموصوفة بالإرهاب. رفع صوته كثيرا -كما يزعم- نصرةً لغزة، بينما تتعاظم أرقام الصادرات والواردات من وإلى إسرائيل.

تلك الرواية ليست من ضرب الخيال، ولا التمنيات. كانت حقيقةً سردها الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية عمرو موسى في لقاءٍ متلفز.

قال موسى «إن انسحاب الرئيس التركي كان احتجاجا على عدم منحه دقيقتين زيادة على الوقت الممنوح له. لم يكن انسحابه من أجل غزة!».

في حديث موسى -وهو الدبلوماسي المخضرم- كثيرٌ من الإشارات، أبرزها أن انتهازية الرجل -أي إردوغان- باتت مكشوفة وواضحة للعيان، ومتاحة على كل الملفات والأصعدة، باعتبار أنه لو كان الأمر احتجاجا حقيقيا على الحرب ضد غزة، لرفض من الأساس الجلوس على المنصة ذاتها بالقرب من الرئيس الإسرائيلي.

الانتهازية التركية التي يمثلها وجه النظام الرئيس رجب طيب إردوغان، يُدركها صُناع السياسة والقرار في العالم والمنطقة. الوحيد الذي انطلت عليه هو حاكم الدوحة، ومن يسير في فلك المال السياسي القطري.

أتفهم أن الرجل يجيد الخطابة بصوتٍ مُرتفع. حتى وإن كان الصوت مرتفعا، إلا أنه باليقين مكشوف لدى البعض على أقل تقدير. وأتفهم -أيضا- أن السياسة التركية تخضع أمام ثلاثة كبار «المملكة العربية السعودية، روسيا، الولايات المتحدة». لكل دولة من الثلاث ثقلها في مناحٍ معينة يخشاها إردوغان، ومن ينتهج سياسته في طهران، فكلتا العاصمتين بالمناسبة وجهان لعملة واحدة، تقومان على التكريس للحروب والإرهاب، وهي الصفة المترعرعة في تاريخهما دون غيرهما.

بالحديث عن «الثلاث الكبار»، فتخشى السياسة التركية الرياض من منطلق الثقل الديني والسياسي والاقتصادي الذي تشكله المملكة، بصرف النظر عن مهاترات الرئيس، ومحاولات جر المملكة إلى وحل الابتزاز والانتهازية.

فهمت الرياض الرجل مسبقا. منحته الفرصة لتعرية توجهاته ورغباته عبر السكوت عن تلك الهرطقات. لم ولن تعره أدنى اهتمام. انصرفت إلى البناء والتعمير دون الاكتراث لصوت العصملي.

وبالنسبة لروسيا، فقد سعت أنقرة مرارا إلى دفع «الدب الروسي» إلى مقامراتها ومراهناتها الفاشلة. جامل عديد المرات، وكشّر عن أنيابه مرارا. فالصوت التركي يرتفع لكسب نقاط سياسية محلية، ويخفت أمام موسكو التي يتردد عليها إردوغان مرارا وتكرارا دون الحصول على ما ينشد، ودون أن يعيره سيد القصر في موسكو أدنى اهتمام.

أما واشنطن، فالجميع يتذكر ملف القس الأميركي الذي قامر به الرئيس التركي، وتحداها بعدم إطلاق سراحه بعد عامين من احتجازه بتهمة التخابر والتجسس، إلا أنه خضع للنبرة القادمة من البيت الأبيض، بصرف النظر عن الخطابات الرنانة، وبعيدا عن اتهامه بالعلاقة بقائد ما يوصف بالانقلاب على نظام إردوغان «فتح الله قولن»، المقيم في الولايات المتحدة، وعلاقته بحزب العمال الكردستاني المناهض لأنقرة. قتل عشرات الآلاف، واعتقل مئات الآلاف الآخرين، لمجرد الشك دون أدلة بالضلوع بمحاولات الانقلاب. في ذلك كثير من التناقض السياسي والأخلاقي، بل الصفاقة السياسية.

الجميع يفهم ويدرك سوداوية السياسة التركية، وانتهازية رئيسها. يتبقى من باب الأمنيات أن يفهم حاكم قطر هذه السياسة. والرأي الصواب يقول إنه حتى وإن فهمها، فلا طريق مُعبد أمامه للخروج من عش دبابير المقامرات التركية. الخروج منها مُكلف على الدوحة سياسيا أولا، واقتصاديا واجتماعيا.

لذا، لا أملك إلا القول: فخامة الرئيس ما أكذبك.