ما يزال مصطلح التنوير من أكثر المصطلحات تداولا في الساحة الثقافية. والكل يدعي بأن أفكاره ونظرياته هي خلاصة التنوير ومنتهاه، والكل يرفع شعار التنوير مدعيا أنه يحمل معجزة الخلاص من قيود التخلف، وتقذف بنا في بحار الحداثة الشاسعة.

التنوير أصبح مفتاحا سحريا، وتعويذة يكفي ترديدها لفتح أبواب الحداثة على مصاريعها، إنها فاكهة الجنة التي ستمنحنا القدرة على تسلق درجات الحداثة من غير عنت ولا اجتهاد في بناء أسس تلك الحداثة، والاكتفاء بترديد تلك المقولات والشعارات الجاهزة عبر خطاب ساذج يحمل في ثناياه تبعية رهيبة، لم يقدر خبراء التخلف على تجاوزه، واكتفوا باتباع أسلوب «حرق المراحل»، في سبيل الوصول إلى الهدف المنشود، التنوير.

كان التنوير نتيجة منطقية للتحولات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية التي مرت بها المجتمعات الغربية، والتي حملت معها عذاباتها وكوارثها الإنسانية، وهذه التحولات حصلت بعد ولادة متعسرة دفع ثمنها ملايين البشر بعد حروب طاحنة طويلة، ولم تكن ثمرة يانعة جاهزة للقطف في أي وقت، كما يتوهم خبراء التخلف في العالم العربي، فهي ليست عملية «غير مشروطة» متاحة حسب الطلب، وبالإمكان حدوثها بنقلة فجائية، ويكفي لحدوثها استيراد نظرية غربية براقة واستزراعها في التربة المحلية، وليس علينا إلا انتظار ثمارها اليانعة.

تحدث «خبراء التخلف» عن التنوير كثيرا، أصبح اسم ديكارت يتردد على أسماعنا في كل يوم وليلة، وما إن يقرأ أحدنا كتابا من تأليف كانط أو فوكو حتى يرغب في أن يصبح كانطيّا أو فوكويا، دون أن يبذل أي مجهود لتحويل أفكار كانط أو فوكو إلى شيء ذي صلة بالعالم العربي، وقصارى ما نستطيع تقديمه هو تنظيم محاضرة تتحدث عن كانط وفوكو في المناشط الثقافية في موقف أقرب إلى الدونية والتكرار.

إن حديثنا عن التخلف حديث تبسيطي وغير دقيق يميل أحيانا إلى السذاجة، وغالب الكتابات العربية التي تتناول قضايا التنمية والتخلف، لم تتمكن بعد من الارتقاء إلى مستوى استيعاب هذا الواقع، لأنها تفتقر إلى أهم ظاهرة من ظواهر التخلف في أي ثقافة، وهي ظاهرة التبعية الثقافية، التي تناولها مفكرون غربيون، واستطاعوا أن يأسسوا لها نظرية متكاملة، ويمنحوها قدرا كافيا من البحث والدراسة، مع أن ظاهرة التبعية الثقافية تكاد تكون غائبة في أطروحات خبراء التخلف، فالتبعية الثقافية واقع مادي محسوس وحقيقة تاريخية واجتماعية في الوطن العربي، وفي ظل تكريس التبعية الثقافية بفعل العولمة التي ترفع شعارات الكونية لإلحاق بقية الشعوب تحت لوائها، فإن خطابنا الثقافي ما زال يتجاهل قضية التبعية الثقافية، وأن تحليل التبعية لم يكن يشكل في الحقيقة تيارا نظريا وفكريا في خطابنا الثقافي اليوم.

فعلامات التبعية الثقافية أصبحت من المعلومات المستقرة، نستطيع رصدها وتمييزها حتى لو تغطت بأغطية العلم والعالمية والكونية وتحقيق الحداثة، ونستطيع أن نلاحظ المجالات التي تمثل بيئة خصبة للتبعية الثقافية، مثل تبعية التعليم والتبعية في البحث العلمي وفي الأنشطة الثقافية والأندية الأدبية والقنوات الفضائية، وازدياد أعداد الجامعات الأمريكية داخل المدن العربية، وتمتد لتصل إلى أنماط الحياة اليومية والقيم الاجتماعية والثقافة الشعبية.

وبعد أن فشلت كل نظريات التحديث في العالم العربي، لسبب وحيد وهو تمركزها حول الذات الأوروبية، وهذا ما جعل نظرية التبعية تطرح نفسها بديلا مناسبا لكل نظريات التحديث وشعارات التنوير، التي طرحت من بدايات القرن العشرين، وما زالت تثبت عدم فعاليتها وعجزها عن فهم حالة التخلف في أقطار العالم العربي. يقول سمير أمين: «إن الحقائق التاريخية التي أظهرت عمق فشل السياسات التنموية التي اقترحتها نظريات التحديث، بسبب تجاهلها المستمر لواقع احتواء دول العالم الثالث في النظام الرأسمالي، هي التي بالتالي مهدت لانتشار نظريات التبعية».

إن تحليل التبعية الثقافية يعطي دراسة أكثر دقة وموضوعية، وأقل انحيازا من كل الأفكار السابقة التي كرست للهزيمة الثقافية، وتفرّغت لجلد الذات ومهاجمة التراث وشيطنته. فنحن اليوم نعيش عصر العولمة الذي يتطلب فهما أكبر لظاهرة التبعية الثقافية لمحاولة خلق حالة توازن ثقافية أمام سيل المعلومات المتدفق في اتجاه واحد.

فشلت نظريات التحديث في العالم العربي لسبب وحيد، هو تمركزها حول الذات الأوروبية، ما جعل نظرية التبعية تطرح نفسها بديلا لكل نظريات التحديث