الكابتن جورج فورستر سادلير، هو قائد القوة 47 في سلاح المشاة البريطاني، أوائل القرن التاسع عشر الميلادي. شخصية حقيقية معروفة في التاريخ البريطاني، ومراسلاته والمقالات التي كُتِبَت عنه موثقة ومحفوظة أيضا في السجلات البريطانية، كما أن له ترجمة في الموسوعة البريطانية، وكذلك رحلته إلى الجزيرة العربية التي انطلق إليها من بومباي في الهند، معروفة منذ طبعتها حكومة الاحتلال البريطاني للهند عام 1866، وتمت ترجمتها إلى العربية وطُبعت أكثر من طبعة، في ظني أن آخرها طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2013، بترجمة أنس الرفاعي وهو نفسه مترجم الطبعة الأولى سنة 1403 في دار الفكر بدمشق، ومع كل هذا فإن أصابع التزوير والكيد الإعلامي لا تلتفت إلى هذا الكتاب، وتأبى إلا الترويج للمذكرات المزعومة التي كتبها عباس الشيرازي، أحد آيات قم، على لسان شخصية مكذوبة ليس لها وجود حقيقي سماها «همفر»، وطبع الكتاب باسم مذكرات الجاسوس البريطاني «همفر» ليزعم أن الدولة السعودية الأولى، ودعوة الشيخ المجدد محمد بن عبدالوهاب، صنيعة هذا الجاسوس البريطاني.

أما المذكرات الحقيقية المتصلة الإسناد بمؤلفها، ولها شهود من وثائق وأحداث، فهي تذكر النقيض من ذلك، ولهذا نجد أن وسائل الإعلام المعادية للدعوة السلفية وللدولة السعودية تتجاهلها وكأنها لم تكن.

الحقيقة المؤلمة لخصوم التاريخ السعودي وخصوم الدعوة السلفية، أن سادلير هذا قام برحلته بتكليف من حاكم الهند البريطاني في جمادى الآخرة عام 1234، والهدف المعلن من الزيارة هو مقابلة إبراهيم باشا وتهنئته على جرائمه التي ارتكبها في نجد عام 1233، وتقديم هدية تذكارية له بمناسبة تدمير الدرعية وهي سيف ثمين أقرّ الباشا بأنه لم ير مثله.

كما كان سادلير يحمل رسالة مهمة من حاكم الهند، يطلب فيها من إبراهيم باشا أن يتحالف معه للقضاء على القواسم الذين كانوا الحليف الوحيد في شرق الجزيرة للسعودية، والمعتنقين لدعوتها.

وسأقتصر في هذا المقال على نقل فقرتين: الأولى من خطاب تكليف سادلير بمهمته وهي رسالة السكرتير الأول لحاكم بومباي البريطاني جاء فيها: «سبق لعلمكم أن سعادة إبراهيم باشا قد حالفه الحظ قبل أشهر معدودة مضت، في السيطرة على الدرعية والقبض على ابن سعود زعيم الوهابيين الأول، وأن سعادته -أي الحاكم البريطاني- تابع انتصاراته حتى شواطئ الخليج، عازماً كما هو معتقد على إبادة قبائل القرصنة نتيجة للأعمال الوحشية التي ارتكبوها بحق رعايا الباب العالي، ولسوء الحظ أن هذه الوحشية لم تقتصر على هؤلاء، بل امتدت إلى دول أخرى على هذا الجانب من الهند»

يرغب الحاكم العام من وراء إنجاز هذا الهدف أن يعلم سعادته -أي إبراهيم باشا- بتأييد الحكومة البريطانية له ومساعدتها إياه، لذلك هي تواقة إلى إجراء اتصالات مع إبراهيم باشا بغرض أخذ العلم من سعادته للانضمام إلى الجيش التركي، بقصد تسهيل عمليات سعادته نحو الجواسم، ولكي تُوَجه لهم العقوبة التي تستحقها تلك الوحشيات».

نستفيد من هذا المقطع: أن بريطانيا مؤيدة لما قامت به الدولة العثمانية نحو الوهابيين -حسب وصفهم- واستعداد بريطانيا للانضمام مع الجيش العثماني للقضاء على آخر حلفاء السعوديين، وهم القواسم.

أما المقطع الآخر من رسالة حاكم بومباي إلى إبراهيم باشا، التي أرفقت بالهدية: «سررت لدى اطلاعي على المعلومات التي وصلتني مؤخرا عن النجاح الرائع للقوات المسلحة التابعة للإمبراطورية العثمانية، حسب التوجيه الخاص لسعادتكم.

وبما أني علمتُ تفاصيل استيلائكم على الدرعية، فإني أغتنم الفرصة وكلي شوق إلى تهنئتكم على الجرأة المتقدة، والتصميم الثابت اللذين تميز بهما جيشكم في مسيره بهذا الشكل المبكر والمشرف، الذي أسفر عن النتيجة التي تدعو إلى الفخر المتمثلة في الهزيمة التامة والدمار الكامل لدولة ذات سيادة، عَقِبَ تألقها السريع وغير المتوقع الذي رقى بها إلى منازل عالية جداً، حيث تُرك أمرُ إذلالها لسعادتكم.

إن الخلفية التي تكمن وراء تقديمي هذه التهاني لكم، وعهدي بكونها مفعمة بالإخلاص، تظهر في ظرف يحالفني فيه الحظ الطيب بمشاغلي بالمراسلات التي هي في غاية الود مع والدكم المحترم محمد علي باشا» [ص 160]

وهذا النص واضح فيما تضمنه من بالغ السرور الذي تبديه بريطانيا بالقضاء على دولة كاملة السيادة والتألق، كما هو واضح في العلاقة المباشرة ليس بين حاكم الهند وإبراهيم باشا فقط، بل مع محمد علي والي مصر.

والرسالتان طويلتان، كل منهما حَريّة بالنشر وحدها، لكنني اقتصرت هنا على ما يبين وجه الدلالة من هذه الرحلة، وهو اغتباط بريطانيا الشديد بما حصل تجاه الدعوة والدولة.

رحلة سادلير كانت بعد سقوط الدرعية بأشهر معدودة، واستيلاء الجيش العثماني على كل المناطق التي كانت تحكمها الدولة السعودية الأولى، ومع ذلك يظهر في كل أجزاء الرحلة مستوى انحطاط الأمن الذي أعقب انهيار هذه الدولة ومستوى تعلق الناس، لا سيما أبناء الحواضر بها، ولم تشأ هذه القوات المتغلبة ولا قياداتها الشرسة إعادة الأمن والاستقرار على نحو ولو قريب، مما كان عليه إبان الحكم السعودي، لأن بقاء الفوضى والتوتر، في وسط الجزيرة، يتصور العثمانيون أنه أنفع لهم في أرض شاسعة ليست بذات ريع، وحفظ الأمن فيها ذو تكلفة لا مردود لها، وهذا التصور لا يظهر من رحلة سادلير وحسب، بل يتجلى لك حين تعلم أن العثمانيين حكموا الحجاز وجبال السروات واليمن قبل دخولهم نجداً بمئتي عام، ومع ذلك لم يحققوا فيها أدنى قدر من الأمن إلا في حالة واحدة، وهي حينما يأتي محملهم للحج ومعه حراسة شديدة التسليح لتحفظ الطريق وقت حجهم، ثم تعود الأمور كما كانت عليه قبل المحمل.

وملاحظات الفوضى تظهر في أماكن كثيرة من هذه الرحلة التي ابتدأت من القطيف وانتهت بينبع.

يذكر سادلير [ص25]: أن القوة المسؤولة عن حراسة التموين في جيش إبراهيم باشا، بعد إسقاط الدرعية بقليل، تعرضت لهجوم قوي من البادية أرغم الباشا نفسه على مغادرة معسكره لتأديب المهاجمين، ويذكر سادلير أن هذه العمليات المستمرة سوف تحول بين الباشا وبين التعاون معهم ضد القواسم، لأنه سيكون مضطراً لاستخدام قواته باستمرار في ملاحقة البدو.

وذكر في صفحة 61، أن مجرد إيجاد اتصالات بين الباشا وقواته المنتشرة في الجزيرة، يحتاج معه إلى إيجاد قوات إضافية لا يستطيع تغطية نفقاتها.

وفي طريقه من الأحساء إلى منفوحة كان بصحبة الحاكم العسكري التركي للأحساء وحاميته، إلا أن هذا الحشد العسكري لم يمنع البادية من أن يذيقوا هذه القافلة الأمرّين، ويلجئوهم إلى تغيير طريقهم وإطالة سفرهم، وفقدان عدد كبير من صحبهم، ولما وصلوا إلى منفوحة وكانت قرية صغيرة، ومن القرى التي أوقع بها إبراهيم باشا، حتى إن سادلير قال إنهم في حالة من البؤس لم يشهدوا لها مثيلا، ومع ذلك فإن هؤلاء البؤساء رغم كل ذلك لم يسمحوا لهذا الموكب العسكري التركي بالدخول إلى بلدتهم، وأقاموا متاريسهم ومدوا بنادقهم من فوق سطوحهم حتى اضطر الحاكم التركي إلى أن يتوسل إليهم ليبيعوه وجنوده بعض الأقوات والأعلاف، فباعوها لهم بأضعاف قيمتها حتى باعوا ثلاث بيضات بقرش!.

وكان أهل منفوحة على رقة حالهم المادي وقربهم من المُصاب، يجهرون بحبهم للدولة السعودية، وبقائهم على الوهابية «حسب سادلير».

فيما يتعلق بالعرض الذي حمله سادلير بطلب مشاركة العثمانيين في القضاء على القواسم، جاءت الكتب من إسطنبول تؤكد وجوب التروي والحذر من غدر الإنجليز، فلما أبطأت الموافقة على حاكم الهند، استعان في قتال القواسم حلفاء الدولة السعودية بإمام الإباضيين، لتعطي هذه الحادثة درسا آخر من دروس التاريخ، وهو أن ما نشاهده اليوم من توافق دول الكفر مع مذاهب أهل البدع في محاربة حَمَلَة منهج السلف، ليس أمرا جديدا، فالضلال ضد الهدى دائما.