العقل دلالته دون دلالة الدماغ، وما زال البعض يقرأ العقل وفق معنى تراثي يرى التمييز والإدراك محله القلب!، ولهذا فالعقل الحديث يجب أن نقرأه وفق منطق معطيات العلم الحديث في معنى «الدماغ» لا وفق منطق «عقال البعير»، كقيد يسلب الإنسان إمكانية الإبداع. فالعبقرية لن تولد من العقل المكبل بالمعنى التراثي، بل من عقل حرّ مبتكر خلاق مبدع، فالحضارة الحديثة معرفة عقلية وليست أهراما من حجر.

الحضارة لغة وعقل، وقبلهما واقع مرير هو ما أنتج الوعي الأعلى لصناعة القفزة بالنهضة العقلية «العلمية»، ثم النهضة الصناعية، ثم ها نحن نعيش النهضة المعرفية من خلال ما يقدمه العالم لنا، لا من خلال ما نقدمه للعالم.

رسالة إلى الجيل الجديد: لا تصدقوا من يمدح لكم أيام زمان، فالمادحون إنما يطربون لأيام شبابهم أو لخيالاتهم التاريخية، وليس لظروفهم التي عاشوها أو الحقائق التي لمسوها. لا تحرجوهم بسؤال القمل وحمى الملاريا بعد كل موسم أمطار، لا تحرجوهم بتقارير التنمية وحجم الأمية في الوطن العربي. شكرا لمن اخترع المكيّف، شكرا لمن اخترع السيارة، شكرا لمن اخترع الأمصال والمضادات الحيوية.

يحكي زكي نجيب محمود أنه في 1953م، كان استاذا زائرا في الولايات المتحدة فيقول: «أخذني أحد الأصدقاء الأمريكيين في رحلة رفق أستاذ في الأدب الإنجليزي، وهو أمريكي أيضا، سألني أستاذ الأدب على سبيل المحادثة: ما رأيك في هذه الحضارة الغربية المادية: السيارة والآلات وما إلى ذلك؟

وهو يوحي إليّ في هذا السؤال بمهاجمة الحضارة الأوروبية، وظن أني من هؤلاء الذين ينظرون هذه النظرة القاصرة، فقلت له: «إن السيارة ليست حديدا، ولكنها عقل وفكر تجسّدا في حديد. هي سيارة بالعلم الذي حرّك هذا الحديد.

إذن، فالسؤال الذي ينبغي أن يُطرح هو: ما رأيك في العقل والعلم؟ عندئذ ستكون إجابتي حتما: لا بد من أن أعبّ منه عبّاً، وإن لم أفعل ذلك فأنا مقصر غاية التقصير».

بعد أكثر من نصف قرن على حكاية زكي نجيب محمود، هل فهمنا العقل والعلم الغربي، أم حفظناهما فقط ورددناهما على بعضنا؟، هل عقولنا أصبحت «عقولا علمية» أم ما زال كثير منا يخاف حكايات السعالى والوعالى، ويورث هذا الخوف لأبنائه؟ بينما يجيء العقل العلمي فيقتحم آبارنا القديمة، ليكتشف لنا أسرار الإغماء الذي يصيب النازلين، بأنه نقص في الأكسجين ولا علاقة للجن بذلك؟ وعليها قس في كثير من نواحي حياتنا «الخرافية».

أقول الحياة الخرافية، وأقصد بذلك الفضاء العام الذي يحكمه الرأي العام، والرأي العام ما زالت تسيطر عليه حكايا الخرافة، حتى مياه التحلية القادمة من البحر كانت الخرافة فيها أسبق إلى عقول الناس، ليقولوا:»من يشرب مياه التحلية تضعف فحولته«، فأقصى إمكانيات الرأي العمومي الحفاظ على الفحولة، ولم ينشغلوا بالعلم والعقل اللذين أنتجا آلاتٍ تُحيل ماء البحر المالح إلى ماء زلال.

مصطلح «الفحولة» اقتحم كل مجال حتى أصبح دليلا على ألطف أشيائنا اللغوية «الشعر»، فكان الشعراء موزعين بين فحول وغير فحول، بينما الدلالة في كلمة «فحل» تنطلق من بيئة رعوية تمسي وتصبح بين أغنامها وإبلها، أكثر من وجودها داخل مكتبة مطلة على نهر أو بحر، عمرها أكثر من ألفي عام كمكتبة الإسكندرية القديمة.

عندما تقرأ المباحث اللغوية، وترى اجترار الدلالات القديمة، والعجز عن التفلسف لاستيلاد مفاهيم جديدة، تصاب بالخيبة، فأدنى العقل أن ندرك من سبقنا، فهل يعقل منذ الخمسينات الميلادية للقرن الفائت وحتى الآن، ما زلنا نستنكر الشعر الحر، وإن اعترفنا به، فلن نعترف به إلا كاعتراف إسرائيل بالحق الفلسطيني، ليبق الشعر الحرّ مجرد رمزية تجد قفزتها من خلال إنجازها الخاص الذي لا يبالي باعتراف «الرسمي»، لنجد محمود درويش فوق الجوائز «الرسمية»، ليترك أثرا فيزيائيا يستحق أن يرى فيه أنه «أثر الفراشة» العابر للقارات.

لم أحكِ عن أزمة العقل العربي مع الاختراع، فمن لم يتجاوز بلغته أزمة قاموسه القديم، فلن يتجاوز بحاضره أزمة عقله المحصور بمفردات تراثية لا يعيشها. فاللغة كائن حيّ بحياة مستخدميها، ولا يقتلها كحراس المعابد إذ يحيلونها بشدة الحراسة إلى محنطة لا تأخذ ولا تعطي، ولا تتنفس ما حولها، مجرد تمثال من المرمر، كأنما هي لغة السماء، بينما السماء تنطق بكل اللغات بدءًا بصوت الرعد ووصولا إلى طائرة يصنعها العقل العلمي فتسبق الصوت، فالعظمة الوجودية تكمن فيما فوق الكتفين، ولهذا قيل: «لا يقاس الناس بطول قاماتهم، بل يقاسون بما فوق أكتافهم إلى عنان السماء».

ختاما، قل لي ما هو قاموس شعب من خلال نكته وحكاياه الشعبية أقل لك ما هو. ولهذا يرى الانثربولوجيون في الحكايا على ألسنة الروائيين العرب من المصداقية أكثر مما يرونه في المجال الإعلامي الرسمي.

فالحكايات تحمل دفء الواقع، رائحة الشوارع، بقايا الرصيف المكسور، صراخ الأطفال في بيوت الصفيح.... إلخ، مما جعل «الخبز الحافي» درسا في الانثربولوجيا أكثر مصداقية من تقرير تصدره إحدى الجامعات العربية عن واقع الإنسان العربي. فالأكاديمية العربية درس في الفواصل والنقولات واكتشاف الأخطاء الإملائية والنحوية، أكثر من كونها درس في المناهج العلمية والنظريات وتوليد المعاني و«تحرير» الخطاب من أسر «المدرسانية» المسكونية.