تقرأ ما هو مكتوب عن استقراء العالم بعد كورونا لبعض الكُتَّاب العرب، فلا يرد إلى ذهنك إلا أدبيات «أبو الحسن الندوي» في كتابه (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟) الذي بدأ كتابته عام 1944م أي قبل انتهاء الحرب العالمية الثانية بعام واحد، وأصدره عام 1947، فكيف لو عرفنا أنه من مواليد بداية الحرب العالمية الأولى 1914م، أي أنه كان شاهداً على انهيار امبراطوريات العالم القديم وعلى رأسها (الدولة العثمانية) وسمع بضحايا يتجاوزون 60 مليون قتيل خلال حربين عالميتين، لم يفصل بينهما سوى عقدين فقط من الزمن ـــ انتهت الحرب العالمية الأولى عام 1918 وبدأت الحرب العالمية الثانية عام 1939- فلم تحصل نهاية العالم ولم تحصل بدايته، بل خلع لثوب قديم مهترئ وارتداء ثوب بمقاييس جديدة، وبناءً عليه فإن أي قراءة تتمحور حول الذات، هي قراءة ليس لها أي قيمة في واقع (سريع التغير قبل كورونا)، والذي حصل مع كورونا أنه أصبح (أكثر سرعة)، فكل التقارير تقريباً وكل التصريحات منذ أيام كلينتون، تشير إلى أن أمريكا تريد التخفف من أعباء (القطب الواحد) كدولة عظمى وحيدة، وأن أكلاف هذه الزعامة المنفردة أصبحت تثقل كاهلها أكثر فأكثر، وأنها أصبحت أحرص من أي وقت مضى على وجود شركاء (حقيقيين) في المنظومة الدولية لحمل بعض هذه التكاليف، وأقصى ما تريده السياسة الأمريكية في هذا الشأن يشبه ما اضطرت إليه بريطانيا من أمريكا بعد تخففها من زعامة العالم بعد الحرب العالمية الثانية.

كورونا حدث ليس فيه أي مؤامرة تخصه كفيروس، مثله مثل الإنفلونزا الإسبانية أو الكوليرا، والمؤامرات والمؤتمرات حصلت بعد حدوثه، فما يحتاج إلى عشر سنوات ليتغير أو يتقرر، ستقوم الدول باستثمار الوباء ليتم التغيير في خمس أو ثلاث سنوات، وما يحتاج إلى سنتين فليحصل الآن، وهكذا، فالسياسي مهمته استثمار الحدث باتجاه المصالح التكتيكية أو الإستراتيجية، بغض النظر عن الحدث ذاته.

كورونا على المستوى النظري العام سيجعل العالم يتغير، ولكن هناك نوعان من التغيرات؟ فتغيرات تخص قارة أوروبا التي عالجت تداعيات سقوط الاتحاد السوفييتي بأقل ما يمكن من جراحة دموية ما بين انقسامات سلمية، وانقسامات أصرت على الدم لتوقيع انقساماتها العرقية (حرب البوسنة والهرسك)، ما أدى إلى قصف البرلمان البوسني بالمدفعية في حصار سراييفو عام 1992، فماذا عن مؤشرات الصراع الاقتصادي بين الصين وأمريكا؟ ورغبة أمريكا في الانسحاب لتتفاوض حتى مع طالبان في أفغانستان، وشعور كثير من الدول في الشرق الأوسط بهذه المسألة ما أدى إلى نزاعات إقليمية شبه دائمة.

عندما يقول الكثير بأن العالم قبل كورونا لن يكون العالم بعده، فهم يقصدون موازين القوى في العالم الحديث، ووفق معيار الدول الدائمة العضوية في مجلس أمن الأمم المتحدة (أمريكا، فرنسا، بريطانيا، روسيا، الصين) ولكننا لاحظنا في المفاوضات مع إيران أن (المانيا) لم يمكن تجاوزها كضامن إضافي لتصبح المعادلة خمسة زائد واحد، فهل يمكن الاتكاء على هذه الأسماء أم أن هناك فاعلين أكثر قدرة من بعض هذه الأسماء، وأن الهند واليابان وربما دولة أو دولتان من أمريكا اللاتينية، حتى كندا التي تحب المزايدة (المؤدبة) على ديمقراطية أمريكا، فالكل بدأ يبحث عن دور على المستوى الدولي، والسبب أيضاً هو محاولة لملء الفراغ الأمريكي، واقتسام كعكة النفوذ، لنرى ما نراه اليوم على مستوى مشرقنا العربي ما بين إيران وتركيا من جهة، وما بين السعودية ومصر كثقل مواز بعد فراغ عربي لدولتين مشرقيتين كانتا ترجحان الكفة ضد أي نسمة نفوذ داخل المنطقة العربية وهما (العراق وسورية)، ولا ينفع البكاء على الحليب المسكوب بقدر ما يهمنا استثمار نصف الكأس الممتلئ، ومنها السحق الاقتصادي الكامل للدول المعادية (إن أمكن).

ما نريد قوله إن تغيرات العالم بعد كورونا هي استمرار لما قبل كورونا، (محاولة ملء الفراغ الذي تتركه أمريكا لحلفائها والصراع عليه كخصومات إقليمية)، والفارق البسيط أن كورونا أصبح يشبه عامل الحرارة في أي تفاعل كيميائي للحصول على النتائج بشكل أسرع، فأوروبا (العجوز) ليست عجوزاً ما دامت تغذي نفسها بخيرة شباب العالم (هناك فيلم فرنسي يحكي برمزية عالية عن عجوز فرنسي ثري شبه معاق يرعاه ويقوم بشؤونه شاب من أصول إفريقية يحمل الجنسية الفرنسية..)، وعليه قس بقية أوروبا التي أوصلت صادق خان إلى عضوية حزب العمال ثم منصب عمدة لندن، ومثله في بريطانيا وعموم أوروبا الكثير، وبذلك فالدول التي توصف بالعجوز قد تكون عجوزا على المستوى الديموغرافي، لكنها حكيمة جداً في معالجة أخطائها واستيعاب متغيراتها العرقية والدينية. ويبقى السؤال المرير الذي غفل عنه كثير من الكتاب إما عمداً أو عن غفلة (أين نحن كدول عربية من هذه التغيرات)؟، كل الكتاب انشغلوا كما انشغل أبو الحسن الندوي باستعراض شماتتهم بما يرونه من تمزق وتشتت وجداني واقتصادي وبيروقراطي في المنظومة الأوروبية، متناسين أن أبا الحسن الندوي الذي رأى تمزقها في الحرب العالمية الثانية، لم يمت إلا عام (1999) وهو يرى أوروبا ما زالت زعيمة العالم تحت الظل الأمريكي، وأن الحرب العالمية الثانية استقرت بالدول الخمس دائمة العضوية التي لأوروبا فيها دولتان، بالإضافة إلى أمريكا كمرجح تميل كفته لأوروبا كعمق سياسي وخط أحمر، تحاول أمريكا التمسك به إلى آخر رمق في (سعر صرف الدولار).أخيراً هناك عارضان أحدهما (نفسي) ويسمى (اضطراب وهامي) يجعل الشخص يعتنق نظرية (المؤامرة) كعقيدة سياسية أكثر منها محاولة للفهم، وهناك (عارض فكري) ظاهره علمي وباطنه دوغمائي، يفترض أنه لا يوجد هامش فوضى في الفيزياء فكيف بالواقع، وهنا نذكر أمثال هؤلاء بنظرية الكاوس/‏‏الفوضى الفيزيائية التي فيها تهدئة من روع المبالغين في التفكير (المنطقي الأرسطي) في تحليل كل ما حولهم.