حيث سقط الآخرون في امتحان الأخلاق وقِيَم القيادة، رأيناها تحافظ على سموّها وقيمها. وحيث تردّد الآخرون وتخبّطوا، رأيناها تقارب الأزمة الوبائية برباطة جأش وبروح قيادية قلّ نظيرها.

منذ شهرٍ، والكلّ يترقّب وصول الفيروس المزعج إلى وطنه، أو إلى البلد التي يحيا فيها. كانت الأمم تتابع الانتشار العالمي بصمت. كثُرَت الاجتهادات الطبية والاقتصادية والعلاجيّة حول هذا الوباء، ولكن قلّت الحكومات والقيادات التي صارحت شعوبها بالحقائق منذ اليوم الأول.

ثمة حكوماتٌ كذبت، وأخرى أدارت ظهرها للأزمة، واستقالت من واجباتها.

ثمة حكومات قلقت على الدورة الإنتاجية أكثر من جزعها على سلامة شعوبها. ثمة دولٌ -أيضاً- اكتفت بالاعتذار من شعوبها، وطلبت منهم تدبّر أمورهم بأنفسهم.

أما الحكومة السعودية، فقد سارعت إلى بذل كل ما من شأنه حفظ الأرواح والنفوس. وهذا لجميع أهل المملكة دون تمييز. في خضم حالة الرعب العالمي السائدة، وجدنا ملايين المقيمين في المملكة راغبين في البقاء فيها -إن رغب أهل البيت طبعا- لا لشيءٍ إلا لثقتهم بوجود قيادة موثوقة وصادقة، أثبتت جدارتها في إدارة هذه الأزمة.

كانت الإجراءات جريئة منذ يومها الأول، مع التوجيه بوقف التدريس والأنشطة غير الحيوية. ثم تدرجت التدابير بوتيرة متسارعة تسبق الوباء، ولا تدع له مجالا للتحكم في الأمور. القيادة الجيدة هي بالتعامل مع الأزمة بمنطق الفعل والاحتواء لا بمنطق ردة الفعل والاستلحاق. القيادة الرشيدة هي بوقف نشاطٍ ما، إنما مع توفير البدائل الرقمية له.

لقد بيّنت هذه الأزمة صواب إستراتيجية التحول الرقمي التي تقودها مؤسسات الحكومة منذ عدة سنوات، سواء للقطاع العام أو الخاص، نظرا لكونها أفضل ما هو متوافر للمواطن والمقيم في هذه الأزمة. كم يتألّم الواحد منّا عندما يجد حال الفوضى في بلادٍ أخرى، مع اضطرار الناس إلى التدافع والازدحام عند شراء حاجياتهم اليومية.

قرأت قبل عدة أيام في جريدة اللوموند الفرنسية عن الهيئة العليا لإدارة الأزمات الوبائية «EPRUS» التي تأسست في 2007، أيام الرئيس الراحل جاك شيراك، وهي تتبع وزارة الصحة الفرنسية. كانت ميزانيتها الأولى تعادل مليار يورو، ومن مهامها توفير عشرات ملايين الأقنعة ومواد التطهير وبرامج التوعية، في حال حصول وباء شامل. ولكن وزراء الصحة المتعاقبين -منذ ذلك التاريخ حتى اليوم- كانوا يقتطعون باطّراد من هذه الميزانية، مما أوقع كثيرا من المستشفيات الفرنسية في حالة عجز تام أمام حجم هذه الأزمة.

لقد أظهرت هذه الأزمة أن بعض الحكومات الغربية، وهي الدول التي ابتكرت مفهوم «دولة الرعاية»، باتت لديها خلال السنوات الـ20 الأخيرة أولوياتٌ من نوع آخر، تراعي بشكل خاص التنمية الاستثمارية، وليس بالضرورة الإنفاق الصحي الطارئ.

عندما يلطُفُ بنا اللهُ -عزّ وجل- وتمرّ هذه النائبة، سنرى حتما شعوبا تحاسب حكامها ومسؤوليها. ولكن التجربة السعودية في التعامل مع الأزمة ستبقى لها حيثية كبيرة. يُقالُ إن الأزمات الكبرى هي التي تنتج الهويات والمسارات.

واليوم، عرفنا كيف ستكون هذه المملكة في مستقبلها المنظور. إنها وطنٌ يحكمه الإيمان والعقل دون مزايدة، وتحتل فيه كرامة الإنسان الموقع المركزي في اهتمامات صانع القرار دون منّة.

وإلى أين ستصل السعودية الجديدة؟ أرى أنها ستذهب دوما إلى حيث لا يجرؤ الآخرون.