تعتبر مكافحة الجريمة بدون الاعتماد على عقوبة الحبس فكرة جذابة وجديرة بالاهتمام، حيث إن حبس المجرمين يكلف دافعي الضرائب مبالغ طائلة، ويمكن أن يفسد المحيط الاجتماعي للمساجين، كما أنه لا يمثل رادعًا كافيًا لمنع الجريمة، نظرًا لأن زهاء نصف المجرمين يعودون إلى عالم الجريمة بعد الإفراج عنهم بقرابة ثلاث سنوات، حسبما تشير الإحصاءات.

القبض على الجناة

ترى الكاتبة جينيفر دولياك في تقرير نشرته وكالة بلومبرج للأنباء أن هناك طريقًا آخر لكسر هذه الدائرة المفرغة مع زيادة عنصر السلامة العامة في الوقت نفسه، وتلفت الأنظار إلى دراسات عديدة، مفادها أن أكثر وسيلة فعالة لمكافحة الجريمة هي زيادة فرص القبض على الجناة بدلا من تشديد العقوبات.

وتسود منذ فترة طويلة فكرة عامة هي أن أفضل طريق لزيادة فرص القبض على المجرمين هو توظيف المزيد من رجال الشرطة، ولكن التكنولوجيا الحديثة، لا سيما تقنيات قواعد بيانات الحمض النووي «دي.إن.إيه»، تتيح الآن خيارًا أرخص من حيث التكلفة، وأقل انتهاكًا للخصوصية الشخصية من جوانب عديدة.

ملفات الحمض النووي

تستخدم قواعد بيانات الحمض النووي الخاصة بالمجرمين حاليًا في جميع الولايات الأمريكية، فضلا عن دول أخرى كثيرة، وإذا ما نظرنا للولايات المتحدة، فإن قواعد بيانات المجرمين في الولايات المختلفة ترتبط إلكترونيًا لتصنع شبكة وطنية تحمل اسم «كوديس»، وتخضع لإدارة مكتب التحقيقات الاتحادي الأمريكي «إف.بي.أي»، وهناك قاعدة بيانات أخرى منفصلة تحتوي على ملفات الحمض النووي التي يتم جمعها من مسارح الجرائم التي لم يتم القبض على مرتكبيها.

ويتصور الكثيرون أن تحاليل الحمض النووي تؤدي بالضرورة إلى انكشاف معلومات صحية حساسة، ولكن هذه النوعية من التحاليل ببساطة تستخدم الحمض النووي، لتحديد سلسلة من الأرقام متفردة لكل شخص، كما لو كانت بصمات أصابع، ولكنها أكثر دقة.

توفير أدلة جديدة

يتمثل الغرض من قواعد البيانات هذه في توفير أدلة جديدة لكشف غموض الجرائم التي يعجز رجال القانون عن سبر أغوارها والقبض على مرتكبيها، وعندما يتم تحميل الحمض النووي من مسرح جريمة معينة إلى قاعدة بيانات كوديس، يتم إجراء عملية مقارنة بملفات الحمض النووي للمجرمين المسجلين على القاعدة، وعند رصد أي تشابه، تحال القضية إلى سلطات تنفيذ القانون، سعيًا للتوصل إلى دليل جديد، ربما يفضي إلى المشتبه بهم في الجريمة.

ويقصد من هذه الفكرة أنه بمجرد تحميل الحمض النووي الخاص بالمجرمين على قواعد البيانات، فإن فرص القبض على الجناة الذين يعودون إلى عالم الجريمة بعد الخروج من السجن تتزايد، وهنا يتبادر إلى الذهن تساؤلات بشأن ما إذا كانت هذه التقنية يمكن أن تردع المجرمين من العودة إلى الجريمة مرة أخرى، وما هي فرصها على تغيير سلوكياتهم الإجرامية؟

التأثير على السلوكيات الإجرامية

أجرى الباحثان راسموس لاندرز وصوفيا تينجر دراسة على تأثير قواعد بيانات الحمض النووي على السلوكيات الإجرامية في الدنمارك التي تطبق منظومة شبيهة بالمنظومة المطبقة في الولايات المتحدة، ولكنها أفضل من حيث وفرة البيانات عليها، وخلصت الدراسة إلى أن قواعد البيانات الحكومية للحمض النووي لها تأثير رادع كبير، حيث يمكن أن تقلل من عدد الجرائم التي ترتكب.

وقامت الدنمارك بتجربة هذه الفكرة بشكل عملي منذ أكثر من 10 سنوات، حيث تم تفعيل قواعد البيانات الخاصة بالحمض النووي، وتغذيتها بالحمض النووي لكل مرتكبي الجرائم الخطيرة «التي ترقى لمستوى الجنايات»، وكانت ملفات الحمض النووي للمدانين تضاف إلى قواعد البيانات الحكومية. وتقول دولياك: لقد توصلنا إلى أن إدراج الأشخاص الذين ارتكبوا جنايات في الدنمارك على قاعدة بيانات الحمض النووي، خفض احتمالات اتهامهم بارتكاب جرائم أخرى خلال العام التالي لخروجهم من السجن بنسبة 42%، كما وجدنا أن المتهمين بالجريمة الأولى يميلون إلى تغيير سلوكهم الإجرامي أكثر من معتادي الإجرام، وهو ما يشير إلى أن التدخل المبكر قد ينطوي على فوائد كبيرة في التصدي للسلوكيات الإجرامية من بدايتها.

دور التقنية في مكافحة الجريمة

تتفق هذه النتائج مع الرأي القائل بأن إضافة المدانين بارتكاب الجنايات إلى قواعد بيانات الحمض النووي في الولايات المتحدة ساعد في الحد من الجريمة، وإن كانت قواعد البيانات الأوسع في الدنمارك ساعدت في رسم صورة دقيقة لدور هذه التقنية في مكافحة الجريمة، وبالتالي أتاحت رؤية أوضح للمناقشات الجارية في هذا الصدد بالولايات المتحدة. وكانت المحكمة العليا الأمريكية قد قضت منذ عدة سنوات أن تخزين ملفات الحمض النووي للمدانين بارتكاب الجنايات على قواعد بيانات مخصصة لهذا الغرض هو إجراء دستوري، وإن كان هذا القانون لا يسري حتى الآن في كثير من الولايات الأمريكية.

وكشفت نتائج الدراسة أن توسيع قواعد بيانات الحمض النووي في الولايات الأمريكية قد يأتي بنتائج إيجابية فيما يتعلق بمكافحة الجريمة، وترى دولياك أن إدراج الحمض النووي للمدانين بارتكاب الجنح قد يكون أيضًا فعالًا لأن هذا الإجراء سوف يساعد في تخزين بيانات أشخاص في بداية رحلتهم في عالم الجريمة.

ورغم أن جمع بيانات الحمض النووي وتحليلها هو مسألة مكلفة من حيث التعدي على خصوصية الفرد، فإنه يعتبر وضع المذنبين خلف القضبان مسألة مكلفة هي الأخرى. وترى دولياك أن قواعد بيانات الحمض النووي تصب في صالح الأفراد، وتوفر على المجتمع تكاليف ضخمة، حيث إن وضع كاميرات أمنية عند كل زاوية وشارع ينتهك خصوصية المارة أكثر بكثير من قواعد بيانات الحمض النووي، وربما يبدو تعميم استخدام هذه التقنية أكثر منطقية، فيما يتعلق بجهود مكافحة الجريمة في المستقبل.