الفشل الذي أحاط بـ«الزجاج المكسور» إحـدى مـسـرحـيـات الكاتب الأمريكي آرثر ميللر الطويلة المتأخرة، خلال عرضها في «برودواي» عام 1994، لا يستطيع أن ينسف تاريخ ميللر، أو يلغي إنجازاته المسرحية باعتباره أبرز مؤسسي المسرح الأمريكي الحديث، وواحدا من أبرز كتاب المسرح العالمي في القرن العشرين.

وسوف تظل أعماله المبكرة التي قدمها في العشرين عاما الأولى من حياته الفنية علامات طريق في حركة المسـرحـيـن الأمـريـكي والـعـالمي، يتوقف عندها المسـرحـيـون لأجيال وأجيال قادمة، باعتبارها إنجازات فنية مبهرة تقدم دروسا في فن الكتابة المسرحية إضافة إلى كونها شهادات فنان متمرد على الحلم الأمريكي، كرس عدداً من أعماله لنقض ذلك الحلم من داخله.

والأدلة على ذلك كثيرة. هناك أولا هذا العدد الكبير من الجوائز التي حصدتها مسرحيات ميللر سواء داخل الولايات المتحدة أو خارجها. ولو أن أحدا كلف نفسه عناء إحصاء الجوائز التي حصل عليها مقابل تلك التي حصدها القطب المسرحي الآخر وهو تينسي وليامز، أو أي كاتب مسرحي أمريكي، في حقيقة الأمر، لتبين لنا قدر التكريم الذي حظي به میللر.

ورغم مرحلة النضوب الفني التي عاشها أخـيـرا - وبالمناسبة فإن هذا أمر طبيعي مع المبدعين، وقد عاش وليامز سنواته الأخيرة في فترة تراجع مماثلة – إلا أن ميللر ظل السنوات الأخيرة من حياته علما كبيرا، بل نجما براقا يحظى بتكريم المهتمين بالمسرح في أنحاء مختلفة من العالم. وبرغم فشل مسرحية «الزجاج المكسور»، في برودواي إلا أنها لقيت نجاحا ملحوظا في لندن أهلها للحصول على جائزة سير «لورانس أولـفـيـيـه» لأفضل مسرحية جديدة.

ومن الطريف أنه دعي لتقديم مسرحيته الشهيرة وفاة بائع متجول، في الصين حيث أخرجها بنفسه لمسرح الشعب في بكين عام 1983.

حياة آرثر ميللر وأعماله لا تختلف كثيرا عن حياة غالبية كتاب المسرح الأمريكي الآخرين، فهي حياة تجمع بين الدراسة الأكاديمية - التي ربما لا تكون عادة في مقدمة اهتمامات الشاب الأمريكي - وبين الخبرة العملية التي يبدأ في اكتسابها بمجرد إنهاء مرحلة الدراسة الثانوية.

ولهذا لم يلتحق ميللر بالجـامـعـة لمدة عامين بعد حصوله على شهادة إتمام الدراسة الثانوية عام 1932، وظل لمدة عامين ينتقل بين وظائف مـخـتلفـة أبرزها الغناء لمحطة إذاعة محلية وقيادة شاحنة.

إن الحديث عن مكانة آرثر ميللر وحجم إنجازه في المسرح الأمريكي يفرض علينا وقفة غير قصيرة عند حال ذلك المسرح في السنوات السابقة على ظهور ميللر، ثم مقارنته بالقطب الآخر الذي لم يقل عنه شـهـرة وتأثيـرا ونعني به «تنیـسي وليامز».

الحـديث عن السنوات السـابقـة يأخـذنا إلى «يوجين أونيل» (1888– 1953) الذي يعـتـبـره الكـثـيـرون من مـؤرخي المسرح الأمريكي بحـق، ومؤسس المسرح الأمريكي، ويأخـذنا أيضا إلى سنوات القلق، سنوات الثلاثينيات ومسرح كل من كليـفـورد أوديتس، والمر رايس، والواقع أننا لا نستطيع تقييم حجم إنجاز «میللر»، دون مقارنته بإنجاز سابقيه، وخاصة «أونيل» الذي يعتبر أول مسرحي أمريكي فرض احترام المسرح الأمريكي على الآخرين، ولسنا هنا في مـجـال الحديث عن تاريخ المسرح الأمريكي، خاصة أنه لا يكاد يـوجـد مـسرح أمريكي حقيقي أو يستحق التوقف عنده قبل أونيل. الحقيقة التاريخية تقول إنه لم يكن هناك مسرح أمريكي حقيقي قبل «يوجين أونيل»، وتلك مفارقة تستحق الإيضاح.

فرغم أن المؤسسين الأوائل لما يعـرف اليـوم بالولايات المتـحـدة، ونعني بهم المهاجرين الذين هاجروا من العالم القديم هروبا من الاضطهاد الديني في عشرينيات القرن السابع عشر، رغم أنهم كانوا قد خلفوا وراءهم في إنجلترا على وجه التحديد حركة مسرحية مزدهرة تعـتـبـر العصر الذهبي للمسرح الإنجليزي، وهو العـصـر الذي قدم «مارلو» وشكسبير، وابن جونسون، إلا إنهم لم ينقلوا ذلك المسرح المزدهر إلى العالم الجديد بسبب التطرف الديني القائل بأن حياتنا على الأرض من باب العقاب والتكفير عن خطيئة آدم الأولى، ومن ثم لا مكان في حياتنا للمتعة.

وفنون الفرجة المسرحية، بل الكتابة الأدبية ذاتها، مولدة للمتعة، ومن ثم لا مكان لها في اليـوطوبيا الدينية الجديدة.

ودون إطالة قاوم المتطهرون الفنون المسـرحـيـة لما يزيد عن مائة عام، وحينما بدأ النشاط المسرحي في العالم الجديد اعـتـمـد في البداية على اسـتـقـدام الفرق الإنجليزية التي كانت تقدم عروضها الأخلاقية خارج کردونات المدن، وفي حظائر الماشية في أحيان كثيرة.

وفي مرحلة لاحقة حينما ظهر كتاب أمـريـكيـون اعتمدوا على عمليات اقتباس ومحاكاة النصوص الإنجليزية.

وهكذا ظل المسرح الأمريكي حتى بداية القرن العشرين مفتقرا إلى كاتب مسرحي أصيل أو كبير الحجم، وإن كانت السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر قد شهدت تقنية أمريكية متقدمة في فنون العرض المسرحي من ديكور وملابس وإضاءة.

من هنا تأتي الأهمـيـة التـاريخـيـة لـ «يوجين أونيل»، فهو أول كاتب أمريكي كبير يقدم نصوصا أمريكية خالصة.. ولكنها لم تكن خالصة تماما.

ففي الوقت الذي كانت أوروبا فيه -في أوائل عـشـرينيـات القـرن العشرين، وهي الفترة التي ظهر فيها أونيل- تموج بالحركات المسرحية بل بسبب ذلك، بدأ أونيل مقلدا، وقضى سنوات إبداعه الطويلة، منذ بداية العشرينيات حتى بداية الأربعينيات، يبحث عن طريق خاص به دون جدوى.

هكذا تأثر بـ«إبسن» وقلده في مرحلته الواقـعـيـة، وتأثر بـتـعـبـيـرية «سترندبرج» وقلدها، وتأثر فوق هذا وذاك بروائع المسرح الإغريقي. وفي حالات كثيرة كان الرجل يخلط بين تلك المؤثرات جميعا داخل النص الواحد.

وإن كان ذلك لا يعني أنه لم يقدم بعض الأعمال الدرامية المتميزة مثل «الإمبراطور جونز»، و«القرد الكثيف الشعر»، ورائعته التي نشرت بعد وفاته «رحلة يوم طويل». كانت عيوبه واضحة للجميع وكانت طموحاته الفلسفية التي لم يهيأ لها مثار انتقاد مؤرخي المسرح الأمريكي.

أما مسرح الثلاثينيات فقد كان أكثر تحديدا في اقترابه من واقع المجتمع الأمريكي بعد الأزمة الاقتصادية وخاصة في تحوله الواضح نحو تقدمية تقف يسار الوسط. وفي ذلك الظرف التاريخي قدم أوديتس، رائعـتـه «في انتظار ليـفـتي». وقد أدت تلك الظروف إلى عزلة وليامز وانغلاقه على نفسه بعكس ميللر الذي ظل يجوب الأرض إلى أن أقعده السن والمرض.

كل هذه الظروف جعلت من آرثر ميللر كاتب أمريكا الأكبر، ومؤسس مسرحها الحديث. لقد وجدت أمريكا في ميللر كاتبها بعد طول انتظار.

2000*

* ناقد وأكاديمي مصري "1937 - 2006"