احتج صديقي قبل نحو 13 عاما على حمل أمه الأربعينية. قام بتعبئة المنزل ضد والدته. أقنع والده وأشقاءه بأن حمل أمه في هذه السن سيكون مثارا للسخرية ووقودا للتندر من قبل القريبين والبعيدين. تقاسم معهم قصاصات أخبارٍ تتناول التحديات الصحية، التي يواجهها مواليد الكبيرات في السن، مما قد يعرضهم للإعاقة.

شعرت الأم أنها معزولة بعد احتجاجات أبنائها، ولاحقا زوجها. والأسوأ من شعورها بالوحدة هو إحساسها بأنها ستنجب طفلا مريضا.

كانت أشهر حملها بطفلها الأخير الأصعب على الإطلاق، فبالإضافة إلى آلام الحمل الطبيعية تعرضت لآلام نفسية فائقة كادت تودي بحياة جنينها.

مرت عليها أشهر الحمل كأنها دهر، أنفقتها في السفر من عيادة لأخرى. لم يبق استشاري نساء وولادة في مدينتها إلا وزارته للاطمئنان على صحة جنينها. أجمع الأطباء أن صحة الجنين حسب أجهزة مراقبة الجنين مطمئنة، لكنهم لا يستطيعون الجزم بشيء حتى يولد. رغم ذلك ظلت الأم قلقة وظل ابنها يطاردها بنظرات الاحتجاج والاستياء والغضب.

لم تتنفس الأم الصعداء حتى أنجبت طفلها مشعل، الذي أشعل البيت ببكائه بعد الصمت المطبق الذي لف المنزل نحو 40 أسبوعا.

اليوم الطفل لم يعد طفلا. صار فتى يبلغ 13 عاما. وصديقي لم يعد مراهقا في سنته الجامعية الأولى وإنما صار موظفا مسؤولا وأبا. والأهم من ذلك صار صديقا لشقيقه مشعل، الذي يرافقه إلى المسجد، وإلى الملعب لحضور مباريات فريقهما المفضل.

كبر الأبناء وتزوجوا وغادروا المنزل وبقي مشعل هو الذي يملأ حياة والديه بابتسامته وهمومه الصغيرة.

كان يظن صديقي أن أمه جنت على نفسها عندما قررت أن تحمل وهي في سن متقدمة، متسائلا: كيف سترعى طفلها وتهتم وتقوم به وهي كبيرة؟ لكن الواقع اليوم يقول إن مشعل هو الذي يرعاها بابتسامته، التي تملأ روحها بالحياة ووجهها بالسعادة.

صار صديقي اليوم يتساءل بينه وبين نفسه: ماذا لو لم يكن مشعل هنا؟ من سيحمي أمي من الوحشة وأبي من الكآبة؟ من سيبدد وحدتهما القاتلة؟ من سيشغلهما بمباريات برشلونة وريال مدريد؟ ومن سيشاركهما أحدث حلقات برامج اليوتيوب الساخرة؟

لا يتخيل صديقي حياة والديه بدون مشعل، الذي حارب وجوده مبكرا. أنا شخصيا لا أتخيل.

مشكلة الكثير في مجتمعاتنا العربية تتمثل في إبداء الملاحظات في الوقت الضائع كما حدث مع صديقي. هذه الملاحظات لا تثير نقعا ولا صليلا، بل ربما تعقد الأمور وتزدها سوءا. فالأم لن تسقط جنينها إثر هذه الاحتجاحات وتغضب الرحمن، لكن قطعا ستسقط فرحتها وستسكنها الأحزان. مهما بلغنا من وعي وحكمة فلا يمكن أن نعرف ظروف الآخرين. لا نعلم دوافع هذا الحمل ومبرراته، وماذا بذلت في سبيله، وماذا سيمنحها؟ إننا نحكم من زاوية ضيقة لا تتيح لنا الرؤية الكاملة. وما أكثر ما نحكم ونقرر من زوايا ضيقة.

من يتأمل واقعنا سيجد الكثير من الآراء السلبية التي نقترفها تجاه من حولنا غير عابئين بالآثار النفسية المترتبة على كلماتنا، وغير مدركين أن رأينا قد يحتمل الخطأ كما الصواب. فلا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة على هذه البسيطة.

يقول الباحث ريتشارد فوكس إن 38% من المشاكل التي تؤدي إلى الاكتئاب الحاد تعود إلى كلمات سلبية تلقاها الأفراد.

ولو أجرى الباحث هذا المسح في مجتمعاتنا لربما تضاعف هذا الرقم إثر إهمالنا لأثر كلماتنا ومدى تأثيرها على مشاعر الآخرين.

أزعجني -قبل سنوات- أحدهم عندما زار المنزل الجديد لأحد أقاربي. سجل ملاحظات على المنزل كأنه يعلق على مباراة. لم يبق ولم يذر. أبدى عدة ملاحظات على المطبخ والبوابة ودورات المياه وشعرت شخصيا بضيق صاحب المنزل الجديد. أحسست برغبة داخلية تستفحل في أعماقه تتجسد في هدم المطبخ وإعادة بنائه. رغبته في انتزاع بوابته ودورات المياه. الضيف رمى كلماته وذهب، لكن كلماته لم تذهب ظلت تطوف أرجاء رأس قريبي. أفسدت يومه وسعادته.

أتساءل: لماذا أصبح الكثير منا يتخصص في إطفاء الأفراح؟

إن أكثر ما أخشاه في هذه الحياة أولئك الذين لا يبتسمون. من يبخل على الآخرين بابتسامة سيبخل بكل شيء.. كل شيء. فما بالك بمن يطفئ ابتسامة الآخرين ويجردهم من أفراحهم. إنه أكبر المجرمين.