من الانتقادات التي وُجّهت إلى الصحافة عموماً، هو "التهويل" الإعلامي للفساد الإداري والمالي. واعتبر البعض أن الهدف من هذا "التهويل" هو مجرد إثارة ضجة، وزيادة مبيعات، وفي النهاية فإن الكلام عن الفساد في نظرهم هو مجرد "كلام جرائد" لا يُسمن ولا يغني من جوع. ومن هذه الانتقادات أيضاً أن كثيرا من الكتاب الصحفيين ينتقدون مواضيع ليست من اختصاصاتهم.
وفي الواقع إن ما يُسمونه "ضجة" أو "كلام جرائد" له وظيفة رقابية لا يُستهان بها، فهو يحرك الأذهان ويوقظ النائمين. والصحافة في مجملها تشكل تهديداً قوياً لكيان الفساد بجميع أشكاله وأطيافه.
وتعتبر الصحافة مصدراً مهماً وحيوياً للمساءلة الحكومية. فعلى سبيل المثال تستطيع التحقيقات والمقالات الصحفية أن تكشف كثيراً من أوجه الفساد في كثير من الجهات والأفراد. وفي المقابل تستفيد من هذه التحقيقات الأجهزة الرقابية واللجان المفوضة، هذا فضلاً عن دورها في تفعيل وتعزيز تنفيذ الإصلاحات الإدارية ورفع مستوى الوعي في المجتمع حول أمور الصالح العام. وما يُكتب في الصحف من ملاحظات أو انتقادات يلقى أهمية بالغة لدى المسؤولين، قد تفوق في كثير من الأحيان الملاحظات الصادرة من الأجهزة الرقابية نفسها، وحتى وإن لم يعقبوا على ذلك.
ولا بأس أن ينتقد الكاتب الصحفي موضوعاً ليس من اختصاصه شرط أن يعلم عنه على النحو الذي يخوله ذلك. فلا يكتب موضوعاً يلقي فيه الكلام اعتباطا، أو لمجرد تسجيل حضوره في موضوع هو محل اهتمام وتداول الناس.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه رغم أهمية الصحافة ودورها الكبير في محاربة الفساد وتعزيز الرقابة والمساءلة، إلا أنها لا تخلو من عوائق ومحددات قد تحول دون أدائها لهذا الدور الرقابي. وتواجه الصحافة عموماً تحديات كبيرة منها ـ على سبيل المثال ـ الحاجة إلى وجود تشريعات وقوانين تعطيها الحق في الاطلاع على المعلومات، وسدّ النقص في التحقيقات الصحفية المتعلقة بأعمال وأنشطة الأجهزة الحكومية، وتقوية العلاقة مع الأجهزة الرقابية، والاهتمام بالقضايا المتعلقة بأعمال وأنشطة الأجهزة الحكومية إضافة إلى غياب مفهوم (الرأسمال الفكري) وكيفية المحاسبة عنه في المؤسسات الإعلامية، والحاجة إلى وجود معايير مهنية للصحافة تكون معلنة ومكتوبة وملزمة.
وتشير دراسات وأبحاث في هذا المجال إلى ضرورة انفتاح الأجهزة الرقابية مثل ديوان المراقبة العامة وهيئة الرقابة والتحقيق على الصحافة وتزويدها بالتقارير الصادرة عنها، بالإضافة إلى تشجيع التحقيقات الصحفية من خلال التدريب المهني لوسائل الإعلام في هذا المجال، وسن الأنظمة والقوانين التي تساعد الصحافة في أداء دورها في الرقابة والمساءلة ومكافحة الفساد.
ولا يفوتني بهذا الصدد الإشارة إلى أحد النماذج المضيئة للدور الرقابي للصحافة، وهو ما قامت به صحيفة "الوطن" في الكشف عن هوية صياد الربع الخالي الجائر، وتفاعل الأمير بندر بن سعود آل سعود، أمين عام الهيئة، مع الموضوع بكل شفافية ووضوح، وعلى قدر كبير من المسؤولية في توضيح الحقائق.
وهذا النموذج هو دليل استرشادي مهم وممارسة مهنية إعلامية متكاملة، يمكن الاستفادة منها في بلادنا لتعزيز الشفافية والمساءلة سواء من قبل الصحف أو الأجهزة الحكومية الأخرى، حيث تم تسليط الضوء على "الحياة الفطرية" في ظل ضعف الوعي والاهتمام بها، والكشف عن هوية المفسدين والقبض عليهم، ومن ثم تناول الصعوبات والتحديات التي تواجه الجهاز المعني بحماية الحياة الفطرية بنظرة شمولية واسعة وإطلاع الناس عليها من خلال الحوار مع الأمير بندر، وتناول موضوعات تتعلق بالمبادئ الإدارية ونظم الرقابة الداخلية والإصلاحات التي تمت للحد من مخاطر الممارسات الإدارية غير السليمة، بالإضافة إلى إلقاء الضوء على التشريعات والأنظمة المتعلقة بهذا المجال. وأجد من المناسب هنا التطرق إلى أساليب الرقابة الداخلية التي أشار إليها الأمير بندر كتجربة واقعية وعملية أضعها أمام الأجهزة الحكومية الأخرى في كيفية تقييم أنظمة الرقابة الداخلية لديها وتفعيل وحدات المراجعة الداخلية. ويمكن الاستفادة منها في عمليات الإصلاح الإداري، منها ـ مثلا ـ الترقيات غير العادلة بالهيئة، والانتدابات الوهمية، والخلل في عملية المشتريات، والتعاقدات والمبالغة في الأسعار.. جميع هذه الممارسات تدل على ضعف أنظمة الرقابة الداخلية، تم اكتشافها من خلال المتابعة والرقابة وإجراء اختبارات المراجعة ومنها التأكد من الأسعار الفعلية في السوق المحلية، ودراسة الشكاوى الواردة إلى الهيئة، ومن ثم تم وضع الحلول اللازمة للحد من هذه المخاطر، منها ضمّ المسؤول عن الترقيات في "مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية"، مع آخر في الهيئة، لترتيب الترقيات بالشكل صحيح.
وقد تمت الإشارة إلى معوقات أداء الهيئة، والتي منها: قلة الوعي، والحاجة إلى التنسيق مع الجهات ذات العلاقة، والحاجة إلى إعادة النظر في الأنظمة والقوانين المتعلقة بالحياة الفطرية وكذلك مراجعة الاعتمادات المالية ومراجعة الخطط الموضوعة. وفي الحقيقة استطاعت صحيفة "الوطن" من خلال طرح قضية الحياة الفطرية على الرأي العام وإجراء الحوار مع المسؤولين تجسيد صورة لتجربة رائعة عن الدور الرقابي للصحافة، وكذلك تجسيد رائع لتفاعل المسؤول مع القضية المطروحة، والتي نتمنى من الصحف ووسائل الإعلام الأخرى والأجهزة الحكومية كذلك أن تسير على نفس هذا النهج، لدفع مسيرة الإصلاح المالي والإداري، وتحقيقاً لتوجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، حفظه الله، التي تؤكد على مواصلة الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والمؤسسي وتطوير الأنظمة ذات العلاقة برفع الكفاية وتحسين الأداء، والعمل على ترسيخ مبدأ الشفافية والمساءلة ومحاربة الفساد المالي والإداري.
أتمنى من المسؤولين في وزارة الثقافة والإعلام وهيئة الصحفيين السعوديين أخذ مسألة الدور الرقابي للإعلام في الاعتبار، لأنهم جميعا شركاء بالتساوي في هذا الموضوع، ولكن من منهم يـُعلّق الجرس أولا؟