استقبلتني ابنة صديقي غادة (3 سنوات) بحفاوة أثناء زيارتي إلى منزل والدها، منحتني حضنا طويلا وابتسامة عريضة. حاولتُ استغلال هذا الترحيب الحار بسؤالها مازحا أن أتقاسم معها قطعة الشكولاتة التي تقبض عليها بأصابعها، لكنها رفضت بشدة وهي تهز رأسها وتهرب مني، قائلة: "إنها دواء وليست شكولاتة".

رفضُ غادة أيقظني من مزحي، وذكرني بالجرائم التي نقترفها بحق أبنائنا وإخوتنا، فنحن نمنعهم صغارا من شرب الغازيات، وتناول الحلويات بالكذب عليهم بأنها أدوية، فيقومون لاحقا بإعادة إنتاج هذا الكذب، وتوزيعه على الآخرين بسخاء.

نتساءل دوما، لماذا أصبحنا مجتمعات منافقة مخادعة وكاذبة؟ غير مدركين أننا نحن من نتحمل وزر هذا الواقع، إثر سلوكياتنا التي ورثناها وأورثناها دون أن نعي حجم خطورتها على ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا.

نستهين كثيرا بما نقوم به أمام صغارنا، رغم أثره وتأثيره الكبيرين عليهم. سلوكياتنا صنعت منهم شخصيات مزيفة، تتربى على التدليس والكذب منذ نعومة أظفارها. فماذا ننتظر من جيل ينشأ وسط منزل يعج بالأكاذيب ما صغر منها وما كبر؟ الأب يطلب من ابنه أن يرد على كل من يسأل عنه بأنه نائم، في حين أنه يتابع مسلسلا أو مباراة.

ما الضير أن نكون صادقين، ونخبر أحبتنا أننا سنعيد الاتصال بهم بعد أن ننتهي من مشاهدة المباراة أو المسلسل، أو بعد الفراغ من من أي موضوع يشغلنا. هذا سيكسبنا احترامهم وتقديرهم، وقبل ذلك سنكسب صغارنا، وسنحافظ على صدقهم ونقائهم، الذي نفتقده في هذا العصر المثخن بالكذب.

قبل سنوات قمع جاري في المطعم رغبة ابنه الصغير في الحصول على مشروب غازي شهير، مدعيا بأنه سيسبب له نزيفا في أنفه عندما يشرع في شربه. المشكلة أن الأب قام بطلب نفس المشروب الذي حذر ابنه منه. تمنيت لو أن الابن سأل أباه عن سبب عدم نزيف أنفه، بعد أن ملأ معدته به. إنني أخشى على أطفالنا ومنهم عندما يكبرون، سوف يستمرئون الكذب، فهم تناولوه صغارا على مائدة آبائهم.

والأدهى والأمر حينما يغضب أب من ابنه، عندما يعلم أنه يدخن، بينما هو يشعل سيجارته أمامه. من يرى أباه يدخن قطعا سيقتفي أثره، إلا من رحم الله. الابن سر أبيه، وما يقوم به الأب أمامه سيقوم به ابنه لاحقا سواء أمامه أو خلفه.

من الصعب جدا أن يتقبل أبناؤنا وإخوتنا نصائح لا يجدوننا نلتزم بها. ما نراه ضارا على أبنائنا، من الحري أن نتخلص منه لنظفر بحياة وأبناء أجمل. نشتكي من التناقض في سلوكيات أفراد المجتمع، وننسى أننا جزء من هذا التناقض، من خلال ما نزرعه في أعماق أبنائنا من بذور ستجعلهم ثمارا فاسدة. من شب على شيء شاب عليه، ونحن نكبر ونشاهد كذبا يتعاظم أمامنا في منازلنا ومدارسنا وجامعاتنا فنستسهله ويستسهلنا.

راقبوا كم مرة نحلف ونقسم في أحاديثنا. أصبحت (والله) مرادفا لكل جملة أو رواية نتفوه بها. لقد أصبح الكذب هو القاعدة والصدق هو الاستثناء. إن التدقيق في غزارة استخدام هذه العبارة وتحليل مضمونها سيجعلنا أكثر إيمانا بحجم المشكلة التي نعاني منها.

ما زلت أتذكر موقفا مر عليّ أثناء دراستي في أميركا رغم مرور أكثر من 10 سنوات على حدوثه. لقد تغيبت عن أحد الاختبارات، إثر عدم استيقاظي مبكرا. نصحني ابن جلدتي أن أدعي المرض، تفاديا للآثار المترتبة على هذا الغياب، لكني لم آخذ بنصيحته كوني لست مريضا، ولا أملك عذرا طبيا يثبت صحة كلامي. وكلت أمري إلى الله وأخبرت أستاذة المادة بالحقيقة. لم أشك لحظة واحدة في أنني سأرسب في المادة، لكنها فاجأتني بعفوها عني قائلة:"كلنا نتعرض لمثل هذه المواقف. متى تريد أن تختبر: غدا أم بعد غد؟". عندهم الصدق منجاة وعندنا عقوبة.

ليتحلى كل منا بالصدق إذا أردنا مجتمعا أقل كذبا وتناقضا.