أكتب هذا الأسبوع من ليما، عاصمة بيرو في أميركا الجنوبية، حيث عُقدت القمة الثالثة لدول أميركا الجنوبية والدول العربية. وأتت القمة في بداية فصل الربيع (في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية)، معبرة عن الأمل الذي يحيط بهذه المدينة الجميلة.

وقد استطاعت بيرو خلال هذا الحدث أن تقدم نفسها كبلد واعد له إمكانات كبيرة في التجارة والاستثمار والنمو الاقتصادي، وحماسة أكبر لاستعادة ماضيه التليد.

وعلى هامش هذه القمة، وقعت دول مجلس التعاون الخليجي وجمهورية البيرو "الاتفاقية الإطارية للتعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري والفني"، وتهدف إلى استكشاف مجالات التعاون الممكنة بين الجانبين في تلك المجالات.

وفيما عدا توقيع هذه الاتفاقية فإن المواطن العادي قد لا يستطيع تحديد نتائج ملموسة لهذه القمة، التي ربما لم يستطع العثور عليها في ثنايا البيان المطول الذي صدر في نهاية القمة في 38 صفحة، على غرار كثير من مؤتمرات العالم الثالث.

وقد عُقدت أول قمة بين الدول العربية ودول أميركا الجنوبية في البرازيل في عام 2005 والثانية في قطر في 2009، ومن المقرر أن تُعقد القمة الرابعة في المملكة العربية السعودية في 2015. وتعود فكرة عقد هذه القمم، التي تضم 12 دولة في أميركا الجنوبية و22 دولة عربية، إلى الرئيس البرازيلي السابق لولا داسيلفا، في سعيه لتعزيز التعاون بين دول الجنوب. وقد لاحظتُ في القمم الثلاث الماضية حرص قادة دول أميركا الجنوبية على المشاركة فيها، بالإضافة إلى قادة الاقتصاد والأعمال. ومن الناحية الثقافية، يعتز قادة أميركا الجنوبية، في خطبهم أمام كل قمة، بتراثهم المشترك مع العالم العربي، ويعتبرونه رافداً مهماً من الناحية التاريخية لثقافتهم، ورأيتُ سعادتهم البالغة في قمة ليما وهم يشيرون إلى هذا التراث المشترك. وسأعود إلى هذا الموضوع في مناسبة لاحقة.

وشارك في قمة ليما معظم قادة دول أميركا الجنوبية ولكن حقيقة أنه لم يشارك في المؤتمر سوى ثلاثة من قادة الدول العربية ألقت بظلالها على المؤتمر، مع أنه قد لا يعكس درجة الاهتمام بأميركا الجنوبية بل ربما عاد إلى عدم تمكن الجامعة العربية من تسويق القمة وأهمية المشاركة فيها على مستوى القمة.

واستطاعت بيرو أن تُظهِر هذا الأسبوع وجهها الثقافي في الموسيقى والرقص والغناء، ونظّمت مؤتمراً للأعمال على هامش القمة حضره أعداد كبيرة من أصحاب الأعمال في أميركا الجنوبية.

وربما لا يعرف إلا القليل في العالم العربي أن بيرو كانت تحتل مركز الثقل السياسي والثقافي في تاريخ أميركا الجنوبية، فهي كانت مركز إمبراطورية الإنكا العريقة، أهم دولة في تاريخ الأميركتين قبل قدوم الأوروبيين. ولذلك كانت عاصمة الحكم الإسباني بعد هزيمتها لتلك الإمبراطورية واستيلائها على أميركا الجنوبية.

ومع أن حظوظها السياسية قد تردّت، وبرزت قوى أخرى أكثر أهمية في تلك القارة، إلا أن بيرو تحلم في استعادة شيء من دورها القديم. ولديها حتماً موارد واعدة ربما مكنتها يوماً ما من تحقيق ذلك. فلديها موارد طبيعة هائلة، ومصادر كبيرة للطاقة التقليدية والمتجددة، ورأس المال، ومعدلات نمو اقتصادي متسارع، وشعب فتيٌّ.

خُذ ثروتها المعدنية على سبيل المثال. قليلون خارج بيرو يعرفون أنها المنتج الأول للفضة في العالم، والمنتج الثاني للزنك، والثالث للنحاس، والرابع للرصاص، والخامس للذهب، فضلاً عن احتياطات كبيرة من الحديد والفوسفات والقصدير والمانجانيز. ولديها إمكانات لإنتاج مزيد، فلا تزيد مساحة المناطق المستغلة على 20% من مكامن المعادن المعروفة. وأخبرني بعض المسؤولين أنهم سيصبحون المنتج الأول للنحاس خلال فترة وجيزة، متعدين جارتهم تشيلي المشهورة بذلك المعدن. وعلى الرغم من إمكانات بيرو الاقتصادية ودورها التاريخي، فإن بيرو غير معروفة كثيراً في العالم العربي، وإن كان ذلك قد بدأ في التغير مؤخراً.

وفي مداخلة كان لي الشرف في إلقائها أمام القمة، قلتُ إن من حق المواطن، بعد ثلاث قمم وعدد لا يُحصى من الاجتماعات الأخرى بين المجموعتين، أن يتوقع نتائج ملموسة يراها أمامه. ومع أن ثمة عدداً من الإنجازات التي تم تحقيقها، إلا أنها أقل كثيراً من إمكانات هذه الدول. فمجموع حجم اقتصاداتها يبلغ نحو سبعة تريليونات دولار، مما يجعلها مجتمعة الاقتصاد الرابع في العالم بعد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والصين.

وقد استطاعت دول مجلس التعاون، على وجه الخصوص، أن تُحدث فرقاً. فعلى هامش القمة الأولى التي عُقدت في برازيليا عام 2005، وقعت اتفاقية للتعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري والفني مع أربع من أهم دول أميركا الجنوبية (البرازيل، الأرجنتين، باراغواي، أوروغواي)، وبعد توقيع هذه الاتفاقية مباشرة قام الجانبان بتعميق علاقاتهما في تلك المجالات، وكانت النتيجة مُبهِرة. ففي حين كان حجم التجارة بين دول المجلس وتلك الدول الأربع أقل من خمسة مليارات دولار في السنة التي وُقّعت فيها الاتفاقية، تضاعف ثلاث مرات خلال ست سنوات، حيث بلغ 15 مليار دولار في 2011، وهو ما فاق جميع التوقعات. وارتفع حجم الاستثمارات وتجارة الخدمات الخليجية أيضاً، ففي حين لم يكن هناك رحلات مباشرة بين أميركا الجنوبية والعالم العربي في 2005، أصبحت هناك عدة رحلات تنظمها شركات طيران خليجية، واستطاعت الشركات الخليجية العملاقة، مثل (شركة عالم دبي لإدارة الموانئ) أن تشق طريقها في أميركا الجنوبية، وتأسست شراكات مهمة في مجالات التجارة والتعدين وغيرها.

وبسبب نجاح اتفاقية 2005، وقعت دول المجلس اتفاقية مشابهة مع بيرو الأسبوع الماضي، على هامش قمة ليما، على أمل أن تحقق نتائج مماثلة.

والحقيقة أن لدى دول المجلس وأميركا الجنوبية مقومات مهمة لنجاح التعاون بينهما، فثمة إمدادات غير محدودة تقريباً من الموارد الطبيعية، ومصادر الطاقة التقليدية (النفط والغاز) والطاقة المتجددة (الطاقة المائية والشمسية)، والموارد المالية، وتركيبتها السكانية الفتية.

وفي حالة بيرو على سبيل المثال، فإنها غنية بمواردها الطبيعية والمالية، وما تحتاج إليه هو تبادل الخبرات وتكوين الشراكات مع دول المجلس، خاصة في مجالات البنية التحتية، والتشييد والبناء، واستغلال الموارد الطبيعية، والاتصالات. ويُشير المسؤولون في بيرو بتقدير بالغ إلى إنجازات دول المجلس في هاذين المجالين، وإلى تجربتهم مع (عالم دبي) التي تدير الميناء الرئيس في بيرو، ويتطلعون إلى شراكات مع دول المجلس تساعدهم على مواجهة التحديات الملحّة التي يواجهونها في التطوير العقاري والسياحي على وجه الخصوص.

إن كل ما ينقص هذه الدول لتحقيق ذلك هو روح المبادرة (لم أقل المغامرة)، والقدرة على الريادة!