التقيت السيد ديف توم مرة واحدة، لكن كانت كافية للغاية؛ لكي أتحدث عنه أكثر من 100 مرة. ديف شاب سرقته الصحافة من الدراسة الجامعية، انتقل من صحيفة لأخرى، يستمتع في كتابة الأخبار كما يستمتع الأرجنتيني لونيل ميسي بلعب كرة القدم أو فيلكس باومجارتنر بالقفز، كان يخرج من الصحيفة ليعود إليها، لم يكن لديه أصدقاء سوى أقلامه والورق.

قرر توم أن يهجر عشقه العتيق فجأة بعد أن ظهر الإنترنت، رأى أن هذا العالم الافتراضي مساحة جديرة بالاستكشاف والتنقيب والمفاجآت كونه عاشقا من طراز رفيع للمغامرات، أخذ دورات مكثفة في البرمجة والتصميم لعامين متتاليين ساعدته على افتتاح موقع إلكتروني صغير يكتب فيه أخبار مدينته مانشستر بلغة صحفية رشيقة، توسع في الموقع، صنع قسما للإعلانات المجانية فيه، إذا كنت تملك أريكة تود بيعها لأحد سكان مدينتك لا عليك سوى أن تصورها وتدرجها في موقعه بسهولة ويسر، انتقل أثاث منازل سكان مانشستر إلى موقعه.. الكل يصور وينشر ويبيع في موقع توم. يمتاز موقع توم بأن كل ما يعرض فيه في مانشستر، لا يحتاج أن تسافر أو تنتظر لتصل إلى ما تبتغيه فيه، إنه في الجوار دائما، وصل عدد زوار موقعه إلى الآلاف، وانضم إلى فريق عمل الموقع العشرات، الكل صار يعرف توم وموقعه، أصبح على كل لسان، لم يكن هناك (فيس بوك) أو (تويتر) آنذاك، حقق نجاحا كاسحا، أحرز دخلا عاليا من الإعلانات التي تنمو في أحشاء موقعه بوتيرة متسارعة.

قبل نحو ست سنوات اتخذ توم قرارا قاسيا آخر بإغلاق موقعه والانتقال إلى عالم جديد، كان يدرك أن استمرار الموقع في وجود مواقع مثل: (أمازون) و(آي بي) وغيرهما غير مجد، تحول إلى مجال آخر، أصبح محاضرا ينتقل من مدينة إلى أخرى، يروي تجربته في الصحافة وموقعه، أعجب بأدائه في إحدى محاضراته بروفسورا في جامعة بريطانية، قال له: "أرى فيك محاضرا بارعا في الجامعة في تخصص الإعلام، من أين حصلت على البكالوريوس؟"، أجابه توم: "لم أدرس الجامعة قط"، رد عليه البروفسور: "لا بأس، ما زلت مؤمنا بأهمية وجودك محاضرا في الجامعة، أنت إضافة للطلاب وأعضاء هيئة التدريس معا، أرجوك، ابعث لي سيرتك الذاتية على إيميلي المتوفر في هذه البطاقة". قبل أن يخلد توم إلى الفراش في تلك الليلة بعث إيميلا إلى البروفسور، كتب فيه سيرته الذاتية وروى تجربته بتدفق.

شكره البروفسور في اليوم التالي، وتمنى أن يلتقيا قريبا، بعد نحو أسبوعين طلب منه البروفسور الحضور إلى الجامعة في موعد محدد للالتقاء بزميليه في الجامعة اللذين يرغبان في مقابلته سعيا لتعيينه عضوا في هيئة التدريس، هطل عليهما توم في الموعد المحدد بحماسته المعهودة وابتسامته وروحه المغامرة، أعجبا به بعد لقاء امتد إلى نحو ساعتين وأوصيا بانضمامه محاضرا في الجامعة. بعد عام من قبوله كعضو هيئة تدريس تم قبوله في برنامج الدكتوراه بعد أن تم احتساب تجاربه العملية كدرجتين علميتين.

تعرفت على ديف في مؤتمر علمي واستمتعت وأنا أستمع إلى حديثه وتمنيت لو أن مديري جامعاتنا العربية والمسؤولين في وزارات تعليمنا العالي سمعوا ما سمعته. حديث الدكتور توم كشف أحد أسرار تقدم الغرب التي تتمثل في قدرتهم على إزالة أي عقبة في طريق المبدعين واكتشاف الموهوبين. شعر بروفسور بأن توم يملك إضافة للجامعة فعمل على توظيفه محاضرا رغم أنه لا يحمل حتى البكالوريوس، لا تربطهما وشائج قرابة أو أواصر صلة لكن تربطهما وشائج مشتركة أعظم تتجسد في تنمية العقول واستثمار الكفاءات والبحث عن النجاح.

تطرد جامعاتنا يوميا مئات المتقدمين للدخول إلى عضوية هيئة التدريس فيها دون حتى أن تستمع إليهم، تعتمد أحيانا على الدرجات العلمية، وأحيانا كثيرة على الواسطة، لا توجد أنظمة تسمح لأصحاب التجارب العملية والخبرات المتميزة والمواهب الحقيقية للدخول في أروقتها إذا لم تكن تعرف صديقا أو قريبا أو حبيبا.

يفشل المئات في الالتحاق بها بسبب اختلاف المسار أو إثر ذرائع غير مقبولة.

ينجح الغربي دون أن يحتاج إلى عشرين شهادة وختم وشفاعة وتبرير ومراجعات وإلحاح، يحتاج فقط إلى موهبة حقيقية تفتح له القلوب والأبواب فيحقق بدوره الفتوحات العلمية والعملية التي تلهم العباد وتنهض بالبلاد.