طغت الرؤية السينمائية على حفل افتتاح أولمبياد لندن، وبدا مخرجه، المخرج السينمائي داني بويل، وفيا لمهنته، فلم يدع الحفل ليكون استعراضا مبهرا بالحركة والأضواء وحدهما، بل جعله معرضا للحياة في بريطانيا، واستخدم فيه مزجا بين الرؤية الدرامية واستعراض الهوية، وكذلك النجوم، فيما يشبه أيضا الوفاء للناجحين.

كان الممثل العالمي دانيال كرايج (الذي يلعب دور جيمس بوند في أفلامه الأخيرة) يزور الملكة إليزابيث ليصطحبها للملعب في طائرة، ويهبطان بمظلتين فوقه في ذات وقت دخول الملكة للمنصة،

وكان راون اتكنسون (مستر بين) حاضرا بحركاته وروعته ضمن فرقة موسيقية، فانتزع الضحكات والتصفيق.

كان كل شيء في الحفل يوحي بالجمال، واشتمل على كل عناصر الجذب، ففيه الموسيقا والرقص والنجوم والدراما والثقافة المحلية والاعتداد بالذات، من خلال التركيز على الثورة الصناعية التي انطلقت في بريطانيا فغيرت شكل العالم، وكانت كلفته التي بلغت 42 مليون دولار قد ظهرت للعيان وترجمت إلى مشاهدة ملموسة. لكن ما كان يحدث في كواليس الحفل كان حكاية أخرى.

توقعات

قبل نحو 7 ساعات كاملة من حفل الافتتاح كنت أتوجه إلى الحديقة الأولمبية التي ينتصب فيها الملعب الأولمبي الذي استضاف الحفل، ولم يكن زحام الجماهير قد بدأ بعد، لكن زحاما من نوع آخر كان على أشده، حيث احتشد مراسلو القنوات الفضائية، ووكالات الأنباء لنقل الأحداث لحظة بلحظة.

كانت وكالة أنباء الأسوشييدت برس، تقيم مقرا بين الملعب والقرية الأولمبية، وكانت البي بي سي تبث حتى نشراتها الإخبارية من أستديو داخل الميدان مطلا على الملعب من خارجه.

قبل ساعات من الافتتاح كان الزميل المذيع التونسي كريم الطرهوني، الذي يرأس بعثة قناة دبي الرياضية للأولمبياد يسألني في حديث لقناته "هل تعتقد أن الإنجليز يخفون مفاجآت سيقدمونها في حفل الافتتاح؟"، وأجبته بـ"نعم" مشددا على أن "المفاجآت تبقي احتفالات الافتتاح في الذاكرة لسنوات، ولذا لن يتخلوا عنها اليوم".

كان ذلك الحديث يجري على باب القرية الأولمبية، الذي وجد فيه كثيرون فرصة للقاء نجومهم.

عند ذلك الباب كان مشاهدون يتجمهرون لالتقاط أي نجم يخرج من البوابة، وكان بعضهم يحمل دفاتر كبيرة وأقلاما، ويحرصون على جمع الأوتوجرافات من اللاعبين والمدربين، وكان الصوت الأعلى والأكثر ترددا هناك هو صوت الكاميرات(كاتشت) التي كانت تلتقط الصور، وتوثق لحظات نادرة مع رياضيين قدموا من كل أصقاع الأرض.

أحيانا كنت أشفق على نجم يحتاج بضعة دقائق ليعبر فقط بضعة أمتار بين أرتال المعجبين الحريصين على التقاط الصور والأوتوجرافات، لكني لم ألحظ أبدا أن أي رياضي تذمر، بل كان الجميع يستمتع بالحدث، وربما كذلك بالشهرة والنجومية.

تذكارات

غير بعيد عن بوابة القرية، كان البعض يحرص على تبادل الشعارات والتذكارات، افترش كثيرون الأرض، وكانت المقايضة هي السمة الأوضح، وكان السؤال "ماذا لديك لي"، وكان ينتهي بأن يقدم حامل تذكارين عليهما شعار اللجنة الأولمبية لكولومبيا مثلا أحدهما لمن يطرح عليه السؤال ليحصل منه في المقابل على شعار الأولمبية الكاميرونية.

لجأ كثيرون لطريقة لافتة، كانوا يعلقون الشعارات على الرغم من كثرتها على ملابسهم، فيتحولون لوحة يمكن أن تجول فيها الأعين للحظات، ولم تكن هذه حالة فردية، بل انتشرت بكثرة فيما يوحي أنها تخصص للبعض الذي لم يرد أن تفوته الفرصة ليجمع تذكارات ستبقى سنوات.

كما افترش كثيرون الأرض واضعين أمامهم عشرات التذكارات لمبادلتها مع آخرين، وقريبا منهم أيضا، كان كثيرون يشكلون فرقا تحتفل على طريقتها. فجأة يصرخ أحدهم فيصفق آخرون، وفجأة تسمع ضحكا جماعيا من هناك، وفجأة تنطلق مجموعة بنشيد حماسي. لقد كان جمعا يعرف كيف يحتفل.

بداية الزحام

قبيل نحو 4 ساعات من حفل الافتتاح بدأ الزحام يشتد أكثر فأكثر، كانت فرق المتطوعين والمتخصصين التي تعمل على تنظيم حركة الجموع تزداد عبئا، وبعد أن كانت تستخدم الأصوات للتوجيه، اضطرت مشرفة على تلك الفرق لاستخدام سلم يشبه سلم حكام كرة المضرب لترتفع عليه مستخدمة مكبرا للصوت لتوجيه الجماهير وحتى حركة المشرفين.

كان المنظمون قد نصبوا ممرات خاصة للقادمين والذاهبين، على غرار حركة السيارات، حتى لايختلط هؤلاء ببعضهم البعض، ولتكون حركة كل ممر في اتجاه واحد، مما يضمن سهولة التدفق.

وحمل كثير من المنظمين لافتات تقول "لا تتردد في أن تسألني"، وكان ذلك بمثابة إعلان مهم لتقديم المساعدة لكل من يرغب بها.

طلب تذاكر

لم يكن التأخر في الحصول على أي شيء عادة عربية بحتة، فلم يكن العرب وحدهم يبحثون عن تذكرة الافتتاح قبل ساعات من انطلاقته، بل شاركهم هذا الهم كثيرون من كل دول العالم، حتى تلك التي تدعي أنها متقدمة تقنيا، ومنظمة بشكل لافت.

كانت تذاكر الافتتاح قد نفذت مبكرا، وكان مكتب التذاكر الموجود على بعد أمتار من دخول المجمع الأولمبي، يعمل فقط على منح التذاكر، لأولئك الذين حجزوا عبر الإنترنت ولم يستلموها من قبل عبر بريدهم.

حمل أميركي ورقة من القطع الكبير، كتب عليها "أريد تذكرتين.. والثمن مفتوح"، وحينما اقتربت منه، بادرني بالسؤال ظنا أنني استجبت لإعلانه "ألديك تذاكر؟!".

تجمع حولنا كثيرون، كان الحديث يدور حول ارتفاع أسعار السوق السوداء للتذاكر، عبر دورات أولمبية عدة. بعضهم كان يتحدث عن دورات منذ برشلونة 1994، وكم كانت قيمة تذكرة الافتتاح حينها في السوق السوداء مرورا على كل الدورات التالية.

حينما سألته لماذا لم يحصل على تذكرة من الإنترنت؟، قال "أحب هذه الطريقة، هي طريقة استثنائية، تشعر بالفرح وأنت تحصل على شيء تظن أنه من الصعوبة أن تحصل عليه"، وكانت تلك فلسفة غريبة لكنها خاصة.

دعوة إلى الله

على المدخل المؤدي من محطة ستراتفورد للقطارات والحافلات إلى الملعب، وقف شابان ملتحيان بلباس إسلامي، كان أحدهما يخطب في الجموع التي تمر أمامه، وكان الآخر يضع أمامه حقيبة، ويخرج منها مطويات يوزعها على العابرين. كانت مطويات تتحدث عن الإسلام، وعن "اعرف القرآن".

عرّفني من يوزع المطويات على نفسه، مكتفيا بأنه "أبو عبدالله" وأنه من أفغانستان في الأصل، لكنه ولد ويعيش في بريطانيا، وحين سألته عما يفعله، قال "هناك تقديرات تقول أن 10.5 ملايين شخص سيأتون لمتابعة الأولمبياد، هي فرصة مثالية لنا لنقدم تعريفا بالإسلام وبالقرآن، طبعنا مطوياتنا بالإنجليزية، لأننا نريد أن يعرف الآخرون ديننا، وكتابنا".

لفت أنظار

كانت المناسبة فرصة للاستعراض، ونجح كثيرون في ارتداء أزياء لافتة، إما بشكلها الغريب والتسريحات التي ترافقها، وإما بكونها تراثية وفلوكلورية تجعل من مرتاديها محط الأنظار وقبلة للكاميرات والفلاشات.

ارتدى رجل ياباني عجوز لباسا تقليديا، وارتدى مكسيكي قبعة وطنية، وحمل آلة الأكوروديون ليعزف عليها، فالتقط العشرات صورا تذكارية معه، ووقف رجل يرتدي ملابس بالعلم الإنجليزي، بما فيها القبعة والنظارات فتصور معه المئات خلال ساعة أو أكثر بقليل. لقد كانت المناسبة مسرحا للعرض والذكريات.