في عام 1978 كانت أرامكو السعودية على موعدٍ مع التحاق صائد الآبار ومكتشفها، بدأ شاباً طموحاً، تدرج بثبات وتحديات إنجاز، ولأن الصحارى لا تعرف سوى لغة التحدي قبله سابراً لأغوارها لتطفو على السطح بترولاً يسر الناظرين. بدأ المهندس عبدالله النعيم حياته المهنية بوظيفة جيولوجي في مواقع الآبار ليبدأ نجمه وحضوره الذي سبقه، فاكتسب معرفة عميقة في جيولوجيا البترول من خلال مهامه الفنية في قسم الاستكشاف.. متدرجاً في مهامه كطبقات الأرض وأعماقها، وأعقب ذلك توليه عدداً من المهام الإدارية، ولأن كل مسؤولية تسنمها أتته طائعة يضفي ويضيف لها بريقاً خاصاً، فقد أصبح على أثرها مديراً لقسم التنقيب في المناطق ثم مديرا لإدارة أعمال التنقيب، ثم مديراً تنفيذياً للتنقيب، ثم نائباً للرئيس ومنصباً آخر نائب الرئيس لهندسة البترول والتطوير (بالوكالة)، ومسؤولاً عن إدارة وتطوير جميع حقول الزيت والغاز في أرامكو السعودية.

كان من الخبراء القلائل الذين تعمقوا بعلم الجيولوجيا وطينه وطبقات أرضه، فقد حصل على عضوية الجمعية الأميركية لجيولوجيي البترول وعضوية لجنتها الدولية، حصل على جائزة الإشادة الدولية الخاصة، كما تولى رئاسة فرع الجمعية الأميركية لجيولوجيي البترول في منطقة الشرق الأوسط حتى عام 2006، وإدراكاً منه، يرحمه الله، للحاجة إلى وجود جمعية مهنية محلية شارك في تأسيس جمعية علوم الأرض في السعودية، وكان أول رئيس لها، وهي إحدى الجمعيات التابعة للجمعية الأميركية لجيولوجيي البترول، وكان حتى وفاته عضواً في اللجان المنظمة للمؤتمرات الفنية للجمعية الإقليمية لمهندسي البترول، وعضواً في اللجان المنظمة للمؤتمرات في منظمة الأرض الخضراء (GEO)، وأول رئيس لها في عام 2006، وله رصيد من الدورات في إدارة البترول في أكسفورد ومركز بيركلي لتطوير التنفيذيين.. عمل المستحيل وأنجز مشاريع في التنقيب بقياسية تسبق الزمان والمكان، فسطر اسمه علماً في فنون الاكتشاف في كل مكان يجوبه أو يقوده حسه أو تخطه أدواته ليحول طين الوطن نفطاً وخيراً نعيش ونقتات به!

وقبل أيام فجعت المملكة وأرامكو التي بدأت عامها الجديد دون زاف الفرح والأمل ومكتشف (الخير) وأهم قياداتها وأركانها.. فقد رحل عبدالله النعيم صاحب الهيبة الوهاجة التي جمعت بين حميد السجايا والسمات الشخصية وسعة الأفق التي يجمع على تداولها الأرامكيون لتصبح صدى في قلوبهم وعقولهم، ليجمعوا على إخلاص وتواضع رجل يعمل بصمت.

يذكر عنه المستشار في وزارة البترول والثروة المعدنية عبدالرحمن عبدالكريم قصة بليغة: "كنت بجانبي في الحافلة التي أقلتنا من مطار تبوك إلى حقل، في رحلة جيولوجية علمية تاريخية، طوال أكثر من أربع ساعات كنت أنت فيها الأستاذ الخبير الذي يشرح تفاصيل تضاريس المنطقة التي كنا نسير خلال جبالها وأوديتها، وصخورها ورمالها.. وأنت الذي تعرف جيداً طبقات أرض هذا الوطن، كما تعرف تفاصيل كفك، كنت تجمع العينات بعين فاحصة ومدرّبة، وتصعد الجبال التي تعرفها أقدامك جيداً، وتنقب في الصخور بشغف المعرفة التي تسكنك، وقد قلت لنا بأنك وزملاءك قد أشبعتم هذه الأراضي بحثاً وتنقيباً حتى أظهر الله على أيديكم خيرات ما في باطنها، حيث تم اكتشاف الغاز في منطقة مدين، والبحر الأحمر، وكنت تحلم بأن يكلل الله جهودكم برؤية الاكتشافات المتوقعة في المنطقة، وقلت لمعالي الوزير، ولخالد الفالح رئيس الشركة، بأنه عندئذ ستكون تلك آخر مهمة لك، وأنك ستطلب بعدها إحالتك للتقاعد بعد عمر طويل من العمل الجاد والمخلص، وقد قيل لك حينها، بأنه لم يحن الوقت بعد، وهناك المزيد من الأعمال التي تنتظرك ولكنك لم تنتظر بل أسلمت روحك لبارئها..."

رحل عبدالله النعيم في صمتٍ كإنجازاته ونجاحاته و(آبار) عطائه، وعندما يرحل المخلصون تخفق أفئدة الشرفاء بحضور الحب والمشاعر المخلصة لأن النسيان صفقة خاسرة لا تغري حتى بالمحاولة، وعزاؤنا رحيل جسد بعد عمر حافل بعطاءات مئات المبدعين والمخلصين، بعد أن قدم لوطنه ما سيبقيه حيا في قلوبنا، لتذكر الأجيال والسنون إنسانيته، إخلاصه، ومواطنته الصالحة التي ترافق أعماله المنثورة شعاعاً على جبين الوطن، وهو يوزع صورا شتى لكل وزير وسفير ومسؤول في نجاحات الصمت بخلفية أخاذة في العمل الإبداعي الخلاق، ليعرفوا أجمل صور التفاني من أجل وطن، فكم من رجال رحلوا عن كراسيهم أوعن دنياهم لا زلنا نذكر أسماءهم وحجم عطاءاتهم، وكم من شخص رحل ولم يترك لنا ولوطنه سوى بقايا من فتات ورق صحف فقط! ولأن تلك الهامة الوطنية لم يغرها المنصب والأضواء ولم يبق سوى رصيده في تراب الوطن ومستقبله، ولأنه كذلك، فحري هنا بالدولة تكريمه عرفاناً لإسهاماته العظيمة وتخليداً لرؤيته، ودروسه في الإنجاز بصمت في زمن الجعجعة!