في أميركا كانت فرصة لي أن ألتقي بعدد من شبابنا المبتعثين للدراسة ضمن برنامج "خادم الحرمين الشريفين للابتعاث"، وكنت حريصاً على هذا اللقاء حتى أقف على الأمر بنفسي وتتاح لي الفرصة للاستفسار والسؤال من المبتعثين أنفسهم بعد أن كان الصراع على أشده ما بين معارض ومؤيد لهذا البرنامج، فالبعض يرى أن البرنامج مضر بسلوك وأخلاقيات الشباب السعودي الذين ينقلون إلى بيئة أخرى فيها من الانفتاح والحرية والقيم الغريبة مما قد يؤثر على الشباب الصغار خاصة، الذين ذهبوا هناك بعد الثانوية.

كان اللقاء مثرياً، رأيت فيه طليعة من الشباب الواعي، تغير في المنطق، وتجدد في الرؤية، ونضج في تناول الأفكار، وإدراك لطبيعة المرحلة القائمة، وإدراك كذلك للتحديات التي سوف تواجه الشباب سواء في زمن الابتعاث من خلال فترة الدراسة، أو العوائق التي سوف تواجههم حين الرجوع إلى ديارهم، وكان هاجس "الوظيفة" هو المسيطر على كثير ممن قابلت، وخاصة حين يسمعون أن بعض المبتعثين قد أنهى دراسته ورجع ولم يتحصل على وظيفة بصورة مباشرة، أو أنه تعب جداً ليحصل عليها، وقد يؤثر هذا حتى في مستوى التحصيل الدراسي أو الطموح، وخاصة بناء الذات العلمية والحصول على أكثر المواهب اللازمة التي تدعم الطالب في سوق العمل.

حدثتنا الملحقية الثقافية في واشنطن بأن عدد الطلاب في أميركا يقترب من 100 ألف مبتعث ما بين ذكر وأنثى، وهو عدد هائل سوف يحدث نقلة كبيرة في الوعي المجتمعي بعد رجوع المبتعثين واكتمال البرنامج، وهؤلاء سوف يأتون بلا محالة في وعي جديد، ويحتاجون إلى صناعة بيئة ملائمة للتخصصات والتطلعات والأفكار، وخاصة أن هؤلاء سوف يكونون في موقع التوجيه والقرار، فكيف يمكن لنا أن نهيئ الواقع لهؤلاء دون أن يكون عندهم ردة فعل سلبية؟ وما هو الحل في استيعاب هذه الأعداد من حيث "الوظائف" الملائمة للتخصصات؟ إنني هنا أقترح تعديلاً في البرنامج ليكون الابتعاث بعد التوظيف، حيث تشاطر الشركات الكبرى الوطنية الدولة ـ والتي تحتاج إلى كوادر خاصة مستقبلاً ـ في تكاليف الابتعاث، بحيث يذهب الطالب وهو مرتاح من مسألة الوظيفة، ثم تكون دراسته متوافقة مع حاجات سوق العمل، ويرجع وهو قد عرف ما المطلوب منه، فيسهم في حركة التنمية دون أن يكون التوظيف ثقلاً نفسياً يحمله الطالب في كل مراحله الدراسية في الخارج.

يعد الجانب الخلقي مقلقاً للكثير ممن يرى خطورة برنامج الابتعاث، وقد كاشفت الطلاب وسألتهم عن رؤيتهم لزملائهم من هذا الجانب، فتحدثوا أنه يوجد أناس يمارسون ممارسات خاطئة، ولكنهم أشاروا إلى أن أكثر أولئك الذين مارسوا الفساد الخلقي حين قدموا إلى أميركا كانوا كذلك قبل الابتعاث، والفارق أنهم وجدوا جواً أكثر حرية، فهم كانوا يتعاطون الشراب المغشوش في السعودية، واليوم هم يتعاطون الشراب الأصلي في أميركا، فالقضية ليست مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالانتقال من البلد الأصلى إلى بلد الدراسة، ولا شك أن هذا يحتاج إلى رعاية من قبل الملحقية وغيرها من الجهات المعنية، بحيث تجعل مراقبة السلوك في زمن الدراسة شرطاً لاستمرار البعثة، لأن الشاب قد ينزلق في بؤر الفساد ثم يتطور الأمر ليدخل في أمور لا تحمد عقباها من الإدمان، أو الانضمام إلى عصابات فساد، أو الوقوع في الشذوذ الأخلاقي، فيكون عالة على المجتمع حين رجوعه، فيفقد البرنامج الهدف المطلوب منه.

مما لاحظته في اللقاء والسؤال أن الصدمة الحضارية بسيطة جداً حين المقارنة مع الصدمة الحضارية والفارقة بين هؤلاء الشباب وبين مبتعثي السبعينات والثمانينات، إذ النقلة الحضارية كانت هائلة، والشعور بالغربة كذلك كان كبيرا جداً وحجم الانبهار أعظم، بينما قاربت وسائل الاتصال والتقارب العمراني والمدني بين الأمم، فلم تعد تلك الفوارق كبيرة إلا في حدود ضيقة من الآداب العامة واختلافها، ومستويات بعض الخدمات والحريات وغيرها، لكنها فوارق لا تحدث الهزة الفكرية والشعورية كما كانت في السابق، فالشاب هناك يتواصل مع أهله وأعماله وأموره الخاصة عبر التقنية، الأمر الذي ينعكس إيجاباً على دراسته واستقراره النفسي.

ولا شك أن هناك تطوراً كبيراً في المجتمع الغربي في الباب الحقوقي والقانوني، وانضباط الناس في احترام القانون، وسهولة الخدمات العامة، وهي تشكل فارقاً ليس سهلاَ بين مجتمعاتنا ومجتمعاتهم، وهذا قد يحدث نوعاً من الإحباط حين يتعود الطالب عليها ويرجع ليقارن بين هذا وذاك، وعليه فإننا بحاجة إلى قفزات في هذه الجوانب، ليس فقط بسبب المبتعثين، بل بسبب طبيعة المرحلة الحضارية وتحدياتها والتي جعلت هذه الجوانب جزءاً من مفاهيم الرقي وتقدم الأمم، وهي تحتاج إلى قرار سياسي ووعي اجتماعي ودور تربوي من خلال مؤسسات التربية والتعليم لخلق البيئة الحضارية الصالحة للأجيال والتي يشكل الشباب فيها العمود الفقري.