أضحت العلاقة وطيدة بين بطء الإجراءات الحكومية وممارسة الفساد الإداري بشقه المالي وتجلت معالم تلك العلاقة بوضوح تام، ذلك أن المفسدين وجدوا في البيروقراطية بمفهومها السيئ حاضنا آمنا لممارسة فسادهم الإداري والمالي على حد سواء، مستغلين حاجة المراجع لإنهاء معاملاته في وقت كان يجب أن يتلاءم والموضوع أيا كان نوع المعاملة، فمن غير المقبول تكدس المعاملات وتأخرها وإيداعها سجون الأدراج انطلاقا من نفس أمارة بالسوء في غالب الأحيان. ولأن الفساد لا وطن له ينمو ويتكاثر في أجواء البيروقراطية، فقد أدت تلك الحالة لظهور المساومات في أجواء حذرة يصعب كشفها، لكنها حقيقة واقعة ومؤلمة نعانيها مثلما يعاني منها سوانا بوضوح تام في دوائر الخدمات العامة، رغم الحرب الضروس والمواجهة الصارمة من قبل الدولة لتلك الممارسات التي أضحت شبه ظاهرة، شئنا أم أبينا. عندما تحتاج مثلا لتصريح بناء أرض تمتلكها قانونا وشرعا يلزمك من الوقت أكثر من أربعة أشهر، رغم إمكانية استخراج الترخيص بمدة لا تتجاوز أسبوعا فقط من تاريخ تقديم الطلب، خاصة إذا كان الإجراء وأوراق الملكية سليمة لا غبار عليها، ومع هذا ستجد نفسك مرغما على مطاردة المعاملة من مكتب إلى آخر، مثلما سترغم للاستسلام لمرسول موظف، صغيرا كان أم كبيرا يمتلك القدرة على تقريب المدة الزمنية الطويلة، بمبرر التعقيب تارة والمجاملة تارة أخرى، ولن تجد مفرا من قبول الإغراء، لأن الرفض يعني مزيدا من التأخير والتعقيد، خاصة إذا استقبلت العارض، وأصبح الانسحاب مؤثرا على سير المعاملة!

الفساد مرتبط بالإجراءات، ومع التسهيل والتنظيم والتأطير يتساقط المفسدون، لا لشيء إلا لأنهم فقدوا البيئة الحاضنة، والعكس صحيح، فهناك حالات وأساليب متعددة يطول شرحها يمكن اعتبارها نماذج حقيقية لمحاربة الفساد، لكنها تظل ناقصة دون التفكير الجدي بتسهيل وتيسير الإجراءات في مجال الخدمات تحديدا، لقطع الطريق على ضعاف النفوس، والحلول تكمن بفعلين متوازيين وهما الأهمية البالغة للتوعية، والاختيار الأمثل للرجل المناسب في المكان المناسب، مع التذكير بقوله تعالى "إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ". لا جدل حول مخاطر تفشي الفساد، المبني على استخدام الوظيفة، لكسب غير مشروع، ففي هذا الفعل المذموم ضرر بالغ بالآخرين، واستغلال غير مقبول لحاجاتهم، وكسر للنظم والقوانين، ولا يمكن الالتفات للمبررات على الإطلاق، ذلك أن ديننا يحثنا في الأصل على الأمانة، إضافة لمساوئ الفساد، وانعكاساته الخطرة على الأمن الاجتماعي والنمو الاقتصادي والأداء الإداري، ولن يستقيم الأمر إذا تخاذلنا في مجال المساندة، والدعم والترصد، وعدم الانسياق لأطماع ومطامع الدنيا ومساعدة المنحرفين على نحو يؤدي للتهلكة في الدنيا والآخرة، فالحاجة قائمة بادئ ذي بدء، بتحديد زمن يسير لإنهاء إجراءات المعاملات، وتنظيم دقيق لحركة تلك المعاملات، غير قابل للاختراق والشفاعة، حتى يدرك كل شخص حقوقه وواجباته، فليس هناك ما يمنع من الاستفادة من تجارب الدول المتقدمة في هذا المضمار، فالقضاء على الفساد مرتبط بالتسهيل غير المخل.