قبل سنوات تلقيت رسالة مثيرة للاهتمام من وكالة سفر وسياحة "نيوزيلاندية"، كانت هذه الوكالة والتي سبق أن تعاملت معها قد أطلقت للتو برنامجاً سياحياً مختلفاً تماماً، يقدّم فرصة الجولة حول العالم خلال 21 يوماً فقط! تتجاوز المرور التقليدي على أبرز المعالم المعروفة؛ بزيارة والغوص في أعماق مواقع مختلفة تماماً، وتقدم تجربة لا يمكن إداركها بالمشاهدة التلفزيونية، بل تحتاج أن تقف بنفسك عليها، لتختبر الثقافة المحلية بصدق، دون حواجز أو موانع.

ولكنني للأسف لم أتحمّس كثيراً لهذه الرحلة، ليس فقط لتكلفتها المرتفعة، ولكن لحاجتها إلى استخراج تأشيرات سفر كثيرة من دول متعددة، الأمر الذي يستغرق مدة طويلة لا تقل عن ستة أشهر على الأقل! ولكن أحد أصدقائي الغربيين شارك مؤخراً في هذه الرحلة الحلم، وما فتئ يتحدث عن تجربته المثيرة هذه، مما جعلني أغيّر رأيي، وأزداد شوقاً للمشاركة في مثل هذه الرحلة، والتي حتماً سوف تكون علامة فارقة في حياة الإنسان، لأنها تحقق إشباعاً مختلفاً للمعرفة، وحب الاستكشاف، كما أن فكرة الدوران على الكرة الأرضية في رحلة واحدة رائعة بحدٍ ذاتها.

الفكرة ليست جديدة، فلقد طرحها الروائي الفرنسي "جول فيرن"، في روايته الشهيرة "حول العالم في ثمانين يوماً"، والتي تدور أحداث مغامرتها عام 1872، حول محاولة الثري الإنجليزي "فيلياس فوج" برفقة خادمه الشخصي كسب رهان بقيمة 20 ألف جنيه إسترليني؛ بالسفر حول العالم خلال 80 يوماً فقط، والطريف في القصة أن "فوج" فاز بالرهان فقط لأنه سافر من الغرب إلى الشرق، وليس العكس، مما ممكنه من توفير يومٍ واحدٍ في الرحلة، واستطاع العودة إلى نقطة البداية في "لندن" قبل نهاية مدة الرهان!

بينما الحقيقة أن أروع ما كتب في هذا المجال؛ هي رواية "ثلاثة أسابيع مع أخي" للروائي الأمريكي "نيكولاس سباركس"، والتي كتبها بمشاركة شقيقه الأكبر "ميكا"، واعتمدت على قصة حقيقية، عندما تلقى "نيكولاس" رسالة من جامعة "نوتردام" تفيد بترتيب رحلة سياحية حول العالم لبعض خريجيها، أطلق عليها رحلة "السماء والأرض"! واشترط للمشاركة في الرحلة أن يكون لكل مشارك مرافق يختاره معه، سواء كان زوجة أو صديقا، وكان أن اختار شقيقه "ميكا" رفيقاً لرحلته تلك، والتي كانت فرصة لا تعوّض؛ لاستذكار ذكريات ماضيهما معاً، كونهما الوحيدين الباقيين على قيد الحياة من عائلتهما، وهكذا انطلق الشقيقان في رحلة البحث عن الذات، والتعرف على زوايا هذا العالم الواسع، وبعد مغادرة الولايات المتحدة الأمريكية؛ كانت البداية من مدينتي "ياكسا" و"تيكال" في "غواتيمالا"، ومنها إلى مدينة "ماتشو بيتشو" في أعالي جبال "الأنديز" بالبيرو، ثم جزيرة "القيامة" الغامضة وسط المحيط الهادي، ثم صخرة "آيرز" في عمق صحاري أستراليا، ثم تاج محل وحصن "الكهرمان" في الهند، مرورا بالكاتدرائيات الصخرية في "لاليبيلا" بإثيوبيا، وفرصة مشاهدة "الشفق القطبي" في المدينة القصيّة "ترمسو" بالنرويج. وبأسلوبهما السردي السلس استطاع الأخوان "سباركس" الكشف بهدوء عن تفاصيل حياتهما الحميمية، وعلى خلفية عجائب العالم عبّرا عن مشاعرهما الأخوّية، واستعادا مغامرات طفولتهما القاسية، والمآسي التي مرت عليهما، واكتشفا حقائق مدهشة عن فقدان والديهما، وعن الحب والأمل، لكن الأجمل في هذه الرواية؛ أنها تؤكد على ضرورة تقبل الحياة بكافة تقلباتها، والأهم أن نحتفظ في أذهاننا باللحظات السعيدة، حتى لو كانت قصيرة وخاطفة.

وعوداً على الرحلة التي أمسيت أفكر فيها، وأعتقد – جازماً - أن القارئ الكريم يود التعرّف على خط سيرها، فهي تبدأ بالتجمع أولاً في مدينة "أورلاندو" جنوب شرق الولايات المتحدة الأميركية، ثم السفر بالطائرة الخاصة إلى "ليما"، عاصمة "البيرو" في أميركا الجنوبية، ثم مغامرة تسلّق جبال "الأنديز" للوقوف على القلعة الضائعة في "مانشو بيتشو"، بعد ذلك السفر إلى أقصى نقطة في "تشيلي"؛ حيث جزيرة "القيامة" المنعزلة وسط المحيط الهادي، والشهيرة بتماثيلها الصخرية العجيبة! ثم استكمال الرحلة خلال المحيط بزيارة مدينة "أبيا" عاصمة دولة "ساموا"، الوطن الأخير للروائي "روبروت ستسفنسون" مؤلف رائعة "جزيرة الكنز"، والاستمتاع بالرقصات الشعبية "الملونة"، ومواجهة الأعاصير البحرية المتلاحقة، وفي اليوم الثامن للرحلة نخترق خط التوقيت العالمي، ونخسر يوماً من أعمارنا، حيث تحط الرحلة رحالها في أستراليا، وبالتحديد إلى الحيّد المرجاني العظيم، هو تشكيل مرجاني رائع يتجاوز طوله 2300 كلم، ثم التعرف عن قرب على عادات قبيلة kuku yalanji في الغابات المطيرة، وتستمر الرحلة إلى مجمع معابد "أنغكور وات" في كمبوديا، وما يحيط به من قصص وأساطير إمبراطورية "الخمير"، ثم إلى البقعة الرائعة في "فيتنام" أو خليج "هالونج"، بعد ذلك زيارة مفعمة بالتوابل والغرائب في "تاج محل" و"جايبور" أو المدينة "الوردية" في الهند، بعد ذلك إلى أكبر محمية للحياة الفطرية في أفريقيا؛ متنزة "سيرينغيتي" الوطني في تنزانيا، ثم إلى "الأقصر" في مصر، حيث معبد "الكرنك"، والإبحار عبر نهر النيل، وبالتالي زيارة منطقة الأهرام وتمثال "أبو الهول"، وتختم الرحلة بالنزول في مدينة "فاس" بالمملكة المغربية، حيث الثقافة الإسلامية والعمارة المبهرة، ثم تعود القافلة من جديد إلى "أورلاندو"، حيث كانت الانطلاقة قبل ثلاثة أسابيع.

يقول "سباركس" عندما تلقيت نشرة إعلان الرحلة: "تنهدت وأنا أفكر.. ربما يوماً ما..." وهذا ما حدث معي فعلاً.. فهل تكون أنت أكثر شجاعة مني وتتخذ قرارك لتشارك في رحلة العمر؟ أم تكتفي فقط بالقراءة والاستمتاع بتجارب الآخرين؟