• "عندما رأيت القندس أول مرة شعرت بالألفة. ولا بد أنه شعر بذلك أيضا، وإلا ما تسلق الضفة الحجرية، وراح يعبث في سلتي وبساطي".. بهذين السطرين بدأ محمد حسن علوان رائعته الأخيرة؛ رواية "القندس"، والتي كانت على وشك حصد البوكر، كإحدى روايات قائمتها القصيرة الستة المرشحة من بين 133 عملا. الرواية تستعمل هذا الحيوان المشغول بالعذوبة والألم، حيث أنهار الحكايات وسدودها ومفارقاتها، وكل ما تنطوي عليه أو تجلبه الحكايا من الجنون والبهجة، الفراقات والتعاسة. مما يحدث ابتداء في حيوات الأسر البائسة في كل أصقاع العالم، حيث يوجد دوما الأبناء والضغينة، الآباء والأمهات السيئون والأنانيون، الانفصال والنشأة، الشعور اللعين بالنبذ، الحب وما فيه من الهاوية والخيانات، السخرية والوحدة.. إلخ، مما حفلت به حياة هذا "القندس".

• وفي الثلث الأخير من الرواية؛ "القطارات لا تعود إلى الوراء، إنها تظل في تقدمها الدؤوب حتى تهرم أخيرا وتتحول إلى كتلة من الحديد الصدئ. ليس أمامي إذاً إلا أن أستمر في الصفير وتجريب المحطات، لهذا أنا أبوح، ولهذا أنا أسافر". هل مستكم هذه العبارة! حسنا، إنها بالضرورة تمس الذي اختار خوض الحكايا ورصدها، لتكون مصيرا له. الروائي والشاعر والرسام والفنان بعموم، يمضي في خوض حكايا، ورصد حكايا، يمضي مثل قطار في هذا الاحتكاك الأليم بحديد الوقت، ومهما توجع إلا أنه يعرف يقينا أنه لا مصير له سوى أن يستمر في صفير الرحلة، وتجريب المحطات والسفر!

• أيضا.. لا بد من الإشارة لتجربة محمد في كتابة الرأي عبر الصحف، والتي أظهر فيها، بموازاة مقدرته الروائية، قدرة مدهشة أخرى على حضوره كمفكر متمكن تماما من أدواته، مجهز بالمعرفة والرؤية والتحليل والربط وحتى طبيعة اللغة والأسلوب المختلفين.

• أخيرا؛ محمد، شخص بالغ الألفة واللطف، تجمعنا صداقة ومحبة. التقينا آخر مرة في مهرجان ببيروت، وأتذكر أنه حين كان يعلو صراخ الشعراء والروائيين وضحكهم وسخرياتهم وجنونهم، كان يجلس في مقعده، بهدوئه التام، بابتسامته وحديثه الحميم، بمنتهى اللياقة والسمت. كان في كل مرة يترك محبته وأثره دون أن يثير أي ضجيج، وهذا هو طبعه منذ عرفته قبل عقد من الزمان، حيث لا يمكن أن تجد في لقياه غير الأدب بمعنييه، زد عليهما الفكرة، والنفس القريبة. هذا هو صاحب "سقف الكفاية"، و"صوفيا"، و"طوق الطهارة"، و"القندس".. صاحب القصيدة واللقطة والقصة القصيرة، صاحب الكلمات الجميلة أينما كانت.