الأستاذ المرحوم مصطفى أمين كان في عصره من كبار الصحفيين والكُتّاب.. ليس في مصر التي ينتمي إليها وحسب، بل في العالم العربي الكبير، وكانت الصحافة تجري في دمه مع أخيه التوأم (علي) مما جعلهما يؤسسان واحدا من أكبر الكيانات والمؤسسات الصحفية في مصر قبل التأميم، وقد دخل السجن في عهد عبدالناصر ولبث فيه بضع سنين بوشاية من الصحفي محمد حسنين هيكل، وكان هذا الشخص الموتور ينقل لعبدالناصر الأكاذيب ويتهم زملاءه ومنافسيه بما ليس فيهم ويكذب على "الريّس"!

عاش التوأمان الموهوبان (مصطفى وعلي أمين) في بيت الأمة كما يُسمى، وهو بيت الزعيم الوطني المعروف سعد زغلول باشا، زعيم ثورة 1919م ، ومؤسس حزب الوفد ورئيس الوزراء ورجل الدستور والبرلمان، الذي نُفي إلى خارج مصر في عهد الملك فؤاد بسبب مواقفه الوطنية، وكُره الإنجليز المحتلين والقصر له.

يورد مصطفى في كتابه (مسائل شخصية)، وهو من أجمل الكتب التي ألفها والتي تزيد عن عشرين كتاباً، أسرارا عن علاقات الوسط السياسي والصحفي وحتى الفني والأدبي في مصر الملكية، التي صارت جمهورية فيما بعد، وهي أسرار لا يعرفها غيره ولم يسجلها أحد قبله! فقد تحدث عن أسرار أم كلثوم ومحمد التابعي، وهيكل والملك فاروق، وعبدالحليم حافظ والنحاس باشا ومنيرة ثابت وريري ودرية شفيق ودولت فهمي وعبدالوهاب...إلخ.

ويتحدث مصطفى أمين عن شهامة الفنانة (كوكب الشرق: أم كلثوم) قائلاً: "وذات يوم صحبت (أم كلثوم) ابنتيّ (رتيبة) و(صفية) إلى بيت الرئيس السادات، وقابلت معهما السيدة (جيهان) وتلقت وعداً من السادات بأنه سيفرج عني (من السجن) بعد المعركة مباشرة، وأنه يعرف أنني مظلوم! وأرسلت أم كلثوم لي في السجن ما قاله السادات، ولم أصدق السادات يومها.. فقد كنا يئسنا يومها أنه سيحارب! وتم عبور 6 أكتوبر، وانتصرت مصر، وأفرج عني السادات، وذهبت أشكر أم كلثوم في بيتها، وأعيد لها الخمسمئة جنيه (التي اقترضتها منها) ورفضت أن تسترد المبلغ وغضبت غضباً شديد الإصرار على رد الدّين...".

ويقول المؤلف عن نفسه:

"أجمل ما في الدنيا هم الناس، متعتي الكبرى في هذه الحياة أن أعرف الناس، أن أعرفهم من الخارج والداخل، أن أدرسهم وأحبهم، أحببت الكثيرين ولم أكره أحداً، كنت أعامل الذين يكرهونني كأنهم مرضى، وأدعو لهم بالشفاء، وكنت أعطي عذراً للطبيعة البشرية، وأعذر الفاشل الذي يحقد على الناجح، وأعذر الضعيف الذي يكره القوي، وأجد مبرراً للفئران عندما تمقت السباع!

عرفت أقزاماً كالعمالقة، وعمالقة كالأقزام. عرفت أقواماً طوالاً عراضا من خارجهم، وصغاراً متضائلين من داخلهم، عاشرت الملوك والصعاليك، وعرفت صعاليك لهم طباع الملوك، وملوكاً لهم أخلاق الصعاليك، عشت مع النجوم في سمائها، ورأيت حولها الشياطين أكثر من الملائكة، وعاشرت الفاشلين... ورأيت مواكب النصر تحف بها الطبول والزمور والهتافات والزغاريد، وشهدت مآثم الهزيمة تنهمر منها الدموع وأصوات البكاء والعويل".

وعن أم المصريين (زوجة سعد زغلول) يقول:

"عرفت أم المصريين ـ صفية زغلول في أول يوم فتحت فيه عيني للحياة، فقد تزوج أبي وأمي في بيت سعد زغلول، الذي عرف فيما بعد ببيت الأمة... وقد عشت في بيتها سنواتي الأولى حتى أصبح عمري 13 عاماً، كنت أناديها (يا ستي)، وكنت أنادي سعد زغلول (يا جدي)، فقد ربيا أمي وهي طفلة يتيمة الأبوين في الرابعة من عمرها، فلم تعرف أباً سوى سعد، ولم تعرف أماً سوى صفية"..

ثم يبسط في 270 صفحة ما عرفه بحكم صلاته الكثيرة وعلاقاته المتشعبة مع رجال ونساء عصره، فيكتب عنهم أشياء طريفة، وأسرارا لا نعرفها، إذ إن قناع الشهرة أو المنصب أو المال يخفي وراءه الكثير من حقيقة البشر.. وخفايا حياتهم.

أصدرت الكتاب في طبعته الأولى عام 1414هـ 1984م مطبوعات تهامة بجدة، وقد أعدت قراءته لأكتب عنه هذه السطور بعد سنوات من طبعه ووجوده في مكتبتي الخاصة، فوجدت فيه متعة وفائدة، وعرفت من جديد شخصيات مشهورة طواها الثرى ولفها النسيان.. فسبحان مغير الأحوال!

رحم الله مصطفى أمين فقد كان آخر عمالقة الصحافة في مصر والعالم العربي.