إذا ما رغبنا في أن نوجز المشهد، قلنا إن القدس تتسرب الآن من أيدي أهلها، شيئاً فشيئاً، على مدار الليل والنهار وعلى مرأى ومسمع من الأمة العربية والإسلامية بل والعالم كله، وإن هذه المدينة العربية الإسلامية الخالدة هي اليوم محل نهب ومصادرة واستيلاء لا يتوقف، حتى لا نقول إنها محط برنامج يزداد شراسة وتوغلاً يوماً بعد يوم، وبالتالي فإن ترك القدس هكذا نهباً لكل الأطماع أمر من شأنه أن يخرج حاضر القدس ومستقبلها من دائرة التداول، ويحسم مصيرها سلفاً على مرأى ومسمع من الناس، كل الناس.

بكلام آخر، فإن مدينة القدس التي كانت على الدوام موضع استهداف مركّز منذ احتلالها، ومحل هجمة إسرائيلية منهجية متعددة الأشكال غداة ضمها بقوة احتلال عسكري غاشم عام 1967، تدخل الآن في غمار مرحلة أشد خطراً على حاضرها ومستقبلها معاً، وتتعرض إلى ما هو أشد هولاً مما تعرضت له طوال تاريخها الحديث.

ذلك أن مدينة القدس، بكل ما ترمز إليه، وما تتربع عليه من مكانة سامقة في وجدان الفلسطينيين والعرب كافة، باتت الآن في عين عاصفة استيطانية هوجاء، تهب عليها من كل الجهات على مدار الساعة، تود أن تمحو طابعها الحضاري، قبل أن تقتلع سكانها وتهود معالهما وتخرجها من نطاق كل مفاوضات محتملة.

ولا أضيف شيئاً إن قلت إن هذه الساعة هي ساعة عصيبة على القدس المدينة، إن لم أقل إن هذه الساعة هي أشد أزمنة القدس خطورة، ليس فقط على معمار المدينة، ولا على هويتها التاريخية فحسب، وإنما كذلك على سكانها العرب الفلسطينيين، الذين يجدون أنفسهم الآن وحدهم، مستفردين تماماً، مصادرين كلياً، كأنهم الأيتام على مأدبة اللئام في هذا الزمن الرديء، وحقاً، لا يكفي الكلام وحده لتصوير ما يجري للقدس في عهد حكومة المستوطنين، وبيان ما يثقل على صدور أبنائها من ترهيب وترغيب، فقد طفح كأس المقدسيين بالمرارة، جراء ما يستبد بهم اليوم من مشاعر بالوحدانية والتخلي والترك، حتى لا أقول الغضب المشوب بالأسى، إزاء من تقع عليه المسؤولية في تلبية النداء، والوفاء بما يمليه عليه واجب النصرة إن عزّ الرجاء.

ذلك أن ما يحدث للمدينة المقدسة وما يتفاقم في محيطها، من تقطيع أوصال وعزل وحصار، وما يتسارع فيها من مصادرات وبناء استيطاني وعمليات تهويد لا سابق لها على مدار سنوات الاحتلال، قد تجاوز في هذه الآونة ما يمكن لنا أن نسميه نقطة اللاعودة، وقوض الأسس التي يمكن أن تجري عليها عملية سلام محتملة.

وبجملة واحدة، فإنه يمكن تشخيص حالة القدس في هذه المرحلة، بأنها مدينة تشهد استكمال الحلقة الأخيرة من تلك السلسلة الجهنمية، التي بلغت الذروة القصوى لها مع بناء جدار الفصل العنصري، وإقامة ما يشبه بوابات الدخول بين الدول على مشارفها المختلفة، ونعني بذلك تكثيف البناء وتدشين الأحياء الاستيطانية، وتسريع الحفريات في البلدة القديمة، ناهيك عن مصادرة الأرض وهدم منازل السكان العرب لصالح إقامة الحدائق التوراتية، وإكمال عملية إغلاق المدينة المقدسة وعزلها عن محيطها العربي الفلسطيني.

لا يتسع المقام فعلاً لاستعراض كل ما تتعرض له مدينة القدس من عدوان صارخ ومن عذابات يومية تثقل على الروح، خصوصاً بعد أن تجلّت لإسرائيل مظاهر ضعف الحالة العربية الفلسطينية، وصرف الربيع العربي الأذهان، كل الأذهان، عن القضية التي كانت حتى الأمس القريب قضية العرب المركزية، وحدث كل ما جرى على خشبة المسرح الدولي من اختلالات، وما صاحبها من انشغالات، أقصت قضيتنا عن صدارة الاهتمامات الدولية.

وليس لدي شك في أن كل هذه الحقائق والوقائع المعروفة لنا جميعاً، نراها بأم العين، وتقرع أسماعنا طوال الوقت، إلا أننا لا نظهر قبالتها أي استجابة كافية لمواجهة هذه التحديات، ولا نتعامل معها بما تستحقه من عناية واهتمام، حتى لا أقول الإهمال الشديد، والانهماك البالغ في الجري وراء نوافل الموضوعات، والاستغراق في تبادل كرة المسؤولية بين الإقدام، والاستمرار في لعن الظلام، سواء على الصعيد الفلسطيني المتمثل في تعدد المرجعيات بلا صلاحيات، وادعاء المسؤوليات التي لم تقدم للقدس شيئاً يذكر، أو على الصعيد العربي والإسلامي الذي لم يضع القدس في المكانة التي تستحقها، ولم يقدم لها ولشعبها الصامد الصابر ومؤسساتها المهددة بالترحيل والإغلاق ما يستحق من دعم ومساندة تستحقها القدس ويستحقها شعبها ومؤسساتها الصحية والتعليمية والثقافية والاقتصادية والإعلامية والاجتماعية.

في الختام، فإنني أجدها فرصة سانحة كي أخاطب اليوم جموع العرب والمسلمين كما دعوتهم عشرات المرات من قبل، كي أدعو أبناء هذه الأمة، إلى دعم مبادرة ذاتية فلسطينية معتمدة منذ نحو عامين، خاصة بتمكين الشعب الفلسطيني من الثبات على ثرى أرضه، ورفع سوية قدراته على الصمود والمواجهة مع الاحتلال، لا سيما في بيت المقدس حيث تتواصل أشد حملات الاستئصال والاستيطان.

إذ في خضم حالة الاستعصاء السياسي الراهنة، وانسداد الدروب نحو التقدم على طريق السلام العادل والشامل، تنصرف الجهود في هذه المرحلة العصيبة إلى هدف تمكين هذا الشعب المناضل لتعزيز مقومات صموده، من خلال خطط عمل مدروسة، وبرامج اجتماعية اقتصادية ثقافية محددة، يجري الآن وضعها موضع التنفيذ على الأرض، حيث لا ينقص من عزيمتنا، ولا يغل أيدينا، سوى التمويل اللازم بالحد الأدنى، لتفعيل كل ما نحن بصدده اليوم من خطط موضوعة، وبرامج عمل مفصلة إلى أبعد الحدود.

وأعود مرة أخرى للتذكير بمبادرة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في مؤتمر القمة الإسلامي في مكة المكرمة عام 2006 لإنشاء وقفية خاصة لمدينة القدس بمساهمة جميع المسلمين في العالم بواقع دولار واحد من كل مسلم، على أن تتشكل لهذه الوقفية أمانة عامة لإدارتها والإنفاق منها وفق الأصول، وعلى أن تتشكل الأمانة العامة لهذه الوقفية من عدد من السياسيين والمثقفين ورجال الدين المعروفين بالكفاءة والحرص والأمانة، من العالمين العربي والإسلامي ومن الفلسطينيين خاصة، وفق نظام خاص يحقق الشفافية التامة في أعمالها ويعمل على تنمية مواردها.

وإنني أثق أن خادم الحرمين الشريفين الذي حيا هذه المبادرة وباركها، هو القادر اليوم على إحيائها، كما أن الأخ الصديق الدكتور أحمد محمد علي رئيس البنك الإسلامي للتنمية والدكتور أكمل الدين إحسان أوغلو رئيس منظمة المؤتمر الإسلامي قادران على وضع الآليات الشفافة اللازمة لذلك. وهذا هو النداء والأمل والرجاء.