لا ينسى كل واع لفلسفة التأريخ أن الواقع عندما يتحرك حركات قوية مؤثرة يحدث مخاضا مهما وأساسيا وعميقا بعد أي حراك وتغيير، مثلما يحصل حاليا في بلدان الثورات التي أهمها وأكبرها مصر، فالتغيير لا يمكن أن تستخدم له مفردة لحظة التغيير أو لحظة الثورة أو عام الثورة، بل يمكن أن تسميه (زمن الثورة)، فالفرد عندما يقرر الثورة على ضعفه وقلة وعيه وغيابه عن الفاعلية قد يحتاج إلى سنين لأن يضع قدمه على الطريق فما بالك بالأمم.

الدعوات في مصر التي انطلقت في 25 يناير2011 في عيد الشرطة لم يناد خلالها المتظاهرون أول الأمر بسقوط الرئيس، بل كان النداء كالتالي "أحمد.. أحمد يا نظيف، مش لاقين الرغيف".. وكان النداء هذا لوقت محدود فقط، والمقصود بالطبع رئيس وزراء مبارك، مع العلم والمؤكد أن الثورة إلى لحظتها ليست بثورة جياع بل كان الجوع جزءا من الأسباب، ولكن السقف في بدايته لم يكن قد تجاوز هذا الحد ولم تكن قد استعملت وسائل القمع ولم يتحرك مبارك إلا متأخرا لإقالة نظيف والبحث عن حلول حقيقية لنداء الناس، وبالمقارنة والنظر مع الثورة الفرنسية نجد أن حكمة وفلسفة التأريخ تتشابه، المشهد متشابه لكن التاريخ لا يعيد نفسه، فمشهد النداء لنظيف أشبه تماما بالتجمع الذي حصل أمام مبنى بلدية باريس في الخامس من أكتوبر 1789 حين احتشدت مجموعات من الناس أمام دار البلدية مطالبين بادئ الأمر بالخبز ورفض عمامة الكنيسة وتسلط التاج، فتجاهلهم كل من سمعهم فارتفع السقف، وفي منتصف الليل دخلوا إلى القصر وكادوا أن يقتلوا الملكة والملك ونجيا واستمرت الثورة، وحدثت يومها القصة الشهيرة من الملكة ماري أنطوانيت عندما سألت: "وماذا يريدون؟ فقيل لها: يريدون خبزا، فقالت: ولماذا لا يأكلون البسكويت"! فغياب القصر عن الواقع وغرقه في النعيم جعلاها تفترض البدائل بأسلوب حقيقي بالنسبة لغيابها في الرفاه، وجوابها ساخر استفز حتى من يقرأ الخبر أو يسمعه، فكانت عندها شرارة الثورة الفرنسية، عرابة ثورات التأريخ الحديث، ولكن الحقيقة أعمق من أن يكون الخبز هو لوحده المحرك، فكان قبل الثورة بـ16 عاما قد انتشر بين الناس ما فهموه من كتاب جان جاك روسو "العقد الاجتماعي" الذي نشر سنة 1762 والذي أصل لمفهوم الحرية، ومن خلال الانتشار الحديث -حينها- للصالونات الثقافية والمقاهي الفرنسية تلاقحت أفكار الناس ووجدوا فرصا أكبر للتواصل بما يشبه اليوم الصالونات الافتراضية الحديثة في عالمي "تويتر" و"فيس بوك"، وظهرت الثورة الفرنسية في مرحلة ثقافية كبرى عم صداها مختلف أنحاء أوروبا بل الولايات المتحدة الأميركية، وألقت بشرارتها في كل صقع وبقع في القارة الأوروبية، وظهر مفكرون في المجتمع الفرنسي أمثال بوك وليبنتز -وأما فولتير فهو قبل الثورة بقليل ومؤثر في وجودها مع أنه كان في أكثر آرائه يرى الإصلاح بملكية دستورية- وكان الفرنسيون 26 مليونا يوم قصة الخبز، وبالمقابل فالثورات في دول عربية ظهرت في عصر تقدم تكنولوجي وتأخر وفقر ثقافي مريع فلا تكاد ترى مفكرا حيا أو مؤثرا في أي من تلك البلاد بل قد يسمى المثقف مفكرا والمتعلم مثقفا والدارس متعلما تحت وطأة الحاجة وضعف التمييز، كما يسمى الواعظ والقاص شيخا وعالما، مع أن سكان مصر لوحدها تجاوزوا 90 مليونا والوضع الثقافي يزيد من صعوبة الواقع، وعدم وجود مفكرين وقلة المثقفين لا تعني سوى صعوبة المهمة وطول الأمد للثورة، وإلا فالشعب المناهض للاستبداد هو صاحب الكلمة مهما كانت العوائق، وإن سارت الأحداث في غير مسارها، يوضح ذلك جوستاف لوبون في كتاب (الثورة الفرنسية وروح الثورات) بقوله: "فالفارق بين روح الثورة المُتمثّلة فى القوى الاجتماعية التى ترفض الاستبداد والوقائع التى أنتجتها الثورة، بحيث استطاعت قوّة صغيرة مُنظّمة أن تختطف السلطة، ثم تسعى لاختطاف الثورة، بهدف وحيد هو إقامة استبداد جديد أشنع من الذى سبقه. هذه القوة التى أقامت حكمها على الخوف حتى من رفاق الثورة، على قاعدة "إن لم آكله أولاً أكلنى"، فلم تُنتج سوى الرعب والفوضى ثم أصبحت تثور على بعضها وتأكل أبناءها، وامتدت الثورة بفرنسا في سيول من الدماء وعاد الملك لويس السادس عشر للحكم من جديد لسنوات حتى أعدم في يناير 1793. ثم سيق الآلاف من الناس إلى المقصلة بتهمة معاداة الثورة. وكانت أقل تقديرات القتلى 40 ألفا وأكثرها قدرت بما يقارب نصف سكان باريس، وتولى الحكم (دانتون) أشد اليعاقبة تطرفا وسفكا للدماء، ثم سقط ليخلفه (روبسبير) ليبدأ وقت طويل من زمن الثورة كانت فرنسا تقاسي فيه الفقر واضطراب أوضاعها التجارية والاجتماعية والأمنية. وقد مهدت تلك الصراعات بعد عقود لصعود ديكتاتور جديد على عرش فرنسا هو القائد العسكري نابليون بونابرت -الذي كان عاطلاًًََ كالكثيرين حين بدأت شرارة الثورة- ليأخذ مداه ووقته فيحارب ويحتل جواره ودولا أبعد حتى في المشرق منها مصر، ثم انبرى الناس للثورة من جديد على دكتاتوريته وتسلطه ليطرد ويموت في منفاه.

وبالمقابل في مصر سبق الثورة انقلاب عسكري ديكتاتوري على الملكية عام 1952 -أسماه العسكر وثبة وعدله طه حسين إلى ثورة وشارك في كتابة الدستور- دامت العسكرة لـ60 سنة قبل ثورة يناير، أما في السنوات التسعين التالية للثورة الفرنسية فحدثت هناك عدة تقلبات بين الجمهورية والدكتاتورية والدستورية والإمبراطورية، وحكم اليمين ثم اليسار المتطرف ومهرجان زمني طويل من التيه بين التجارب، وفي ذات قرن صراعات فرنسا ومتغيراتها كانت المملكة المتحدة (بريطانيا) تقوم بإصلاحات دستورية واسعة عززت وجودها واقتصادها ونفوذها في العالم أجمع ولزمن قارب الثلاثة قرون، مع أن الدماء هناك لم تكن عاملا حقيقيا للإصلاحات، لأن الفارق قد يقع من خلال مرونة السلطة في التجاوب مع الحاجة المجتمعية للإصلاح وتبنيه والسير نحوه، فكانت الحالة الملكية البريطانية مثالية بالمقارنة مع فرنسا.

لقد مرت دول كثيرة بعملية التحول الديموقراطي، وكانت لها ظروفها وأحوالها التي أثرت بشكل مباشر في المدة الزمنية المطلوبة لهذا التحول، فبينما استغرقت بعض من دول شرق وجنوب أوروبا عدة أشهر كاليونان ورومانيا وبلغاريا وألمانيا الشرقية لإحداث التحول الديموقراطي، فقد احتاجت دول أوروبية أخرى مدداً أطول منها البرتغال وإسبانيا وهولندا وبلجيكا والمجر وطالت المدد أكثر وأكثر حتى عقود طويلة في بعض بلاد أميركا الجنوبية واليابان وماليزيا، وقد تطول التحولات كثيرا في الشرق الأوسط مشابهة أوروبا أو فرنسا تحديدا، حيث شكلت الثورة الفرنسية حدثا مهما في تاريخ أوروبا والعالم وتركت نتائج واسعة النطاق من حيث التغير والتأثير في الدول والشعوب الأوروبية. مع الأخذ بكل الاعتبارات كعدد السكان والتشكل اليميني واليساري اجتماعيا وسياسيا في كل دولة، وكذلك مدى الانصهار السكاني في وحدة عميقة قبل الثورات وغيرها من الأسباب، وهذا التغيير شيء من تجديد الحياة الصعب وخلع جلد بانتظار وقت طويل يكسو عري الألم بمظهر ومخبر جديدين، وأما المستقبل فلن يكون كالماضي أبدا، فالتأريخ لا يملك عنق البعير ليلتفت للوراء، وهو الآخر كالبشر "لا يضع أقدامه في النهر مرتين".