بعد تعافيه ـ بحمد الله الشافي المعافي ـ من البأس الذي مر به في الثالث والعشرين من محرم عام 1433، وزاره خلاله سمو ولي عهد البلاد ـ يحفظه الله ـ وسواه من عارفي قيمته وقامته؛ وفق الله معالي الشيخ السيد أحمد زكي بن حسن بن سعيد يماني ـ إلى أن يهدي إلى روح جده، ووالده، ووالدته، والمكتبة الإسلامية تأليفه الثالث "دار السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها في مكة المكرمة.. دراسة تاريخية للدار وموقعها وعمارتها).. الكتاب الذي صدر حديثا عن مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، جاء في إخراج متميز وفاخر، مشتمل على صور نادرة، وخرائط، ووثائق، وكشافات، وفهارس.. يقول المؤلف في إهدائه الكتاب: "أحمد الله على توفيقه لإتمام هذا العمل الجليل الذي يوثق أشرف المواقع الإسلامية في مكة المكرمة، دار أم المؤمنين السيدة خديجة، والتي ضمت بين جنباتها، وداخل حجرتها المباركة، أفضل خلق الله، سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم، وأبناءه، وبناته الكرام".. مقدمة الكتاب أتت ملخصة لموضوعه المهم: "تعتبر دار السيدة خديجة معلما إسلاميا عند المسلمين عامة، فهي الدار التي تزوج فيها الرسول صلى الله عليه وسلم من السيدة خديجة، وتردد عليها سيدنا جبريل حاملا رسالات ربه بالقرآن الكريم، وفيها نزلت: "يا أيها المدثر. قم فأنذر. وربك فكبر. وثيابك فطهر"، وفيها تكرر نزول الوحي، وفيها شق قلبه صلى الله عليه وسلم، وفيها أسلمت السيدة خديجة، وسيدنا علي، وسيدنا زيد بن حارثة، ومنها انطلقت رحلة الإسراء والمعراج، وفي حجراتها أنجبت السيدة خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم البنات والبنين.. وعاش في رحابها، وبين حجراتها ثمانية وعشرين عاما من حياته، فلا مبالغة أن يقول الإمام الطبري وغيره: إن دار السيدة خديجة أفضل محل بالحرم بعد المسجد الحرام..

كتابنا المهم يعد أول وأهم دراسة علمية ومعمارية تتناول تاريخ الدار منذ إنشائها قبل الإسلام، وعمارتها عبر العصور المختلفة حتى ظهورها قبل ربع قرن، ولم تكتفِ بمسح المصادر التاريخية المكية فحسب، بل تعدتها إلى وصف عدد من الرحالة المسلمين والمستشرقين، الذين زاروها خلال حقب زمنية متباعدة، بدءا من رحلة ابن جبير، ومرورا برحلات ابن بطوطة، والعياشي، وأوليا جلبي، وبركهارت، وبيرتون، وأيوب صبري باشا، وسنوك، وإبراهيم رفعت، والبتنوني، وإلدون رتر، حتى رحلات كل من محمد حسين هيكل، وإبراهيم حبيب، ومحمد لطفي جمعة، حين استحالت الدار أثرا بعد عين، ولم يعد لها أي وجود، أثناء زياراتهم، وبحثهم عنها..

لقد تمكن معالي الشيخ أحمد زكي ـ جزاه الله خيرا ـ من خلال كتابه القيم وبكل اقتدار من توثيق المعلومات التاريخية عن الدار، وذكر صفتها عبر المراحل التاريخية المختلفة، ومعرفة ما أحاط بها من إصلاح، وتجديد، وإضافة، وتعديل، وما صاحبها من مظاهر اجتماعية وثقافية، واستطاع أن يصل إلى اثنتي عشرة نتيجة مهمة، وعلى رأسها تلك المتعلقة بعدم إنكار العلماء الأوائل زيارة الأماكن الأثرية في مكة المكرمة، والتي ارتبطت بالرسول صلى الله عليه وسلم.. يقول القاضي عياض ـ العالم المعروف ـ : "جدير لمواطن عمرت بالوحي والتنزيل، وتردد بها جبريل وميكائيل، وخرجت منها الملائكة والروح، واشتملت تربتها على جسد سيد البشر، وانتشر عنها من دين الله وسنته رسوله ما انتشر، وأول أرض مس جلد المصطفى ترابها، أن تعظم عرصاتها، وتتنسم نفحاتها، وتقبل ربوعها وجدرانها".