انتهجت بعض الجهات في المملكة تعيين متحدث رسمي عنها، يمثلها أمام وسائل الإعلام، وفي تصوري أن هذا التوجه من حيث المبدأ توجه ممتاز، لأنه من شأنه أن يضع سياقا عاما لتصريحات الجهة وتوجهاتها، ويقلل من التصريحات المتناقضة التي قد تنتج عن تعدد المتحدثين والممثلين لذات الجهة.

ونظرا لكون المتحدث الرسمي عن أي جهة هو لسانها الناطق، وهو المعبر عن حالها ومكنونها، والكاشف عن موقفها أمام العامة، فإن المتعارف عليه ألا يشغل هذا المنصب إلا شخص له من المهارات والقدرات ما يمكنه من تأدية دوره باقتدار وكفاءة، ويوصل صوت الجهة التي يمثلها بالشكل المطلوب، وأذكر أنني عملت فترة من الزمن لدى شركة خاصة لها تعامل مع الجمهور، فعينت الشركة متحدثا رسميا عنها، وقد أعطته دورة متكاملة متخصصة لكي يقوم بدوره، ومن عناصر تلك الدورة كيفية الوقوف أمام الكاميرا، وكيفية الحديث مع المذيع، وكيفية تلافي الأسئلة المحرجة، وكيفية إرجاء التصريحات التي قد يكون لها نتائج وتبعات ملزمة حتى يتضح موقف الشركة الرسمي داخليا، هذا فضلا عن أهمية المعرفة القوية بالجانب النظامي للشركة والبيئة النظامية التي تعمل في سياقها، وقد مارس هذا الرجل مهمته باحترافية عالية خلال تلك الفترة.

إنني أرى أن الجهات الحكومية تحتاج لأن تولي هذا الموضوع ذات الدرجة من الجدية والاحترافية عند اختيارها لمن يقوم بأعمال ومهام هذه الوظيفة المهمة، وقد سمعنا في الأسابيع الأخيرة بعض التصريحات التي أثارت جدلا واسعا، ومنها تصريح المتحدث الرسمي لوزارة العدل بشأن مراقبة المحامين في "تويتر" وأنها ستأخذ إجراءات حازمة بحق المغردين المتجاوزين بما في ذلك سحب تراخيص المحامين، حيث صرح المتحدث الرسمي "أن جميع المحامين عليهم رقابة تشمل توجهاتهم وتصرفاتهم، ورصد كل ما يعد مخالفاً لنظام العمل، كالإعلان عن مكاتب المحاماة الذي يعد مخالفة نظامية؛ فالمحامي لا يعلن عن نفسه أو مكتبه" وأضاف "ليس هنالك إدارة أو قسم خاص لمتابعة ومراقبة المحامين، ولكن المراقبة تتم من خلال ما يلاحظ من الإثارة التي يطلقونها عبر تغريداتهم، أو ما يتطرقون له بخصوص بعض القضايا أو ما فيه مخالفة للنظام"، وعن الإجراءات المتخذة حيالهم، قال: "تتراوح العقوبات ما بين اللوم والإنذار وسحب الرخصة، ناصحاً المحامين بالتقيد بالنظام" (النص مقتبس بالكامل من مصدر الخبر).

تصريح المتحدث الرسمي أثار حفيظة المحامين، لما شمله من عبارات يفسرها المحامون بأنها مخالفة للنظام، خصوصا مايتعلق بمفهومي المراقبة وسحب التراخيص، بقيت حالة التشنج هذه مستمرة في ظل صمت المتحدث الرسمي دون تقديم أي توضيح، حتى قام بالتواصل مع بعض القنوات وبدأ يبين أنه لم يقصد الرقابة بالمعنى الذي فهمه المحامون، وأن تصريحه مرتبط بإعلان المحامين عن أنفسهم على "تويتر"، حيث أشار المتحدث الرسمي إلى "أن "تويتر" أصلاً وسيلة إعلامية وما يحدث أحياناً هو إعلان.. وزارة العدل هي من يعطي التصاريح، وشعار الوزارة عليهـا، وأنت محسوب يا محامٍ على (القضاء الواقف).. نرجو منهم تقدير ذلك.. المسألة ليست مراقبة كل التغريدات.. لا توجد رقابة بالمعنى الذي فهم، لكن أيضاً الوزارة مسؤولة عن متابعة ما يخالف النظام وتنفيذ النظام.. وزارة العدل هي مرجع المحامين". (النص بين علامتي التنصيص مقتبس بالكامل من مصدر الخبر)

ليس الغرض من هذا المقال التعليق على محتوى التصريح بقدر ما هو التعليق على وضعه في ظل التصور الذي بينته في أول المقال، فالتصريح الأول الذي تفضل به المتحدث الرسمي لم يراع البيئة النظامية التي يتعامل معها، أو على أقل تقدير لم يعبر عنها بالشكل الملائم، وقد تكون الصحيفة التي نشرت الخبر عنه هي من صحف كلامه وحرره على غير مقصده، ولكن معالجة الموضوع، سواء لبيان أنه تصحيف للكلام أو أن الكلام أُخذ على غير محمله، جاءت في سياق الإصرار على صواب الرأي والتوجه.

قبل أيام من تلك التصريحات كان المتحدث الرسمي ذاته متحدثا في ملتقى الإعلام العدلي، مبينا أهمية الدورات والتدريب في هذا الباب، ومشددا على الالتزام بأدبيات الإعلام والمهنة على جميع المشتغلين بالجانبين، وهو ما نشكره له، وإن لم نره حاضرا في تصريحاته الأخيرة بشأن "تويتر".

أتمنى من كل قلبي أن تولي الجهات الرسمية دور المتحدث الرسمي أهمية قصوى، وأن يتم اختياره لهذه المهمة بناء على المؤهلات العلمية والمهارات الذاتية التي تمكنه من أداء دوره باقتدار والتعبير عن الجهة التي يمثلها بالشكل الملائم وبما ينقل توجهاتها بشكل واضح دون لبس.