تنطلق الدعوة إلى تقنين الشريعة من منطلق الرغبة في النجاة من أن نكون ممن ينطبق عليهم قول الحق تبارك وتعالى "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" "الفاسقون" "الظالمون"، ولا أكاد أشك للحظة واحدة بأن من ينادي بتقنين الشريعة إنما ينطلق من باب الغيرة على هذا الدين ابتداء، ومن منطلق الرغبة في تطبيق حكم الله سبحانه وتعالى، ولا أشك أيضا في أن من يدعو إلى عدم تقنين الشريعة وترك المساحة للاجتهاد، كما هو حاصل الآن، إنما ينطلق من ذات المنطلق.

ولكن ينبغي قبل أن ننطلق في تبني أحد الموقفين أن نسأل أنفسنا ابتداء، هل من الممكن تقنين الشريعة؟

وللإجابة على هذا السؤال، فإننا لا بد أن نعرف ما معنى كلمة "تقنين"، ومعنى كلمة "شريعة" على وجه الحقيقة، فعملية التقنين، وفقا للسائد، هي إما أن تكون هنالك نصوص قانونية صادرة من جهة التشريع في الدولة أو أن تكون هنالك أحكام قضائية باتة في الموضوع الذي يتم تقنينه، بحيث تعد سابقة قضائية حاكمة وفاصلة في الموضوع، أو مزيجا من الاثنين معا.

عملية التقنين ذاتها ليست سردا للنصوص فقط، ولكنها عملية إجرائية طويلة ومعقدة تستغرق أعواما في معظم الحالات حتى يمر النص بجميع مراحله ليصبح قانونا نافذا، وهو من اختصاصات السلطة التشريعية في الدول، ونفاذ هذا القانون يستتبعه عدد من المواضيع ذات العلاقة، وإن لم تكن من عملية التقنين ذاتها، فكيفية التعامل مع هذه النصوص من خلال الجهات التنفيذية ومن ثم القضائية عند وقوع خلافات متعلقة بشأنها تعطي أبعادا بشأن فهم وآليات تطبيق القانون.

عملية التقنين هذه بكل مراحلها هي عملية "تشريع"، أي إيجاد نص وتشريع الإلزام به بموجب سلطان القانون.

"الشريعة" في ذاتها لفظ ورد في القرآن خمس مرات بصيغ مختلفة، ولكن لا أظن أننا وصلنا إلى اتفاق بشأنها تجعل منها "مصطلحا" واضح المعالم ذا حدود جامعة مانعة، ولهذا فإن السؤال الذي عنون به المقال (هل يمكن تقنين الشريعة؟) سؤال ذو وجوه.

عرف الجرجاني في التعريفات "الشرع" بأنه لغة عبارة عن البيان والإظهار، يقال شرع الله كذا، أي جعله طريقا ومذهبا ومنه المشرعة. كما عرف الشريعة بأنها الائتمار بالتزام العبودية، وقيل الشريعة هي الطريق في الدين.

ولو أردت أن أقف على التعريفات المتباينة لكان هذا المقال بحثا علميا مطولا.

لكن المفهوم السائد يمزج بين فقه الرجال ومختلف مذاهبهم وبين نصوص الشرع من القرآن والسنة، ولهذا فإننا عندما ننظر في تفاصيل هاتين الدعوتين "تقنين الشريعة" و "عدم تقنين الشريعة" نجد أن مسماهما لا ينطبق على فحواهما، إذ نجد أن معظم ما يدور حول تقنين الشريعة يتحدث في حقيقته عن تقنين الفقه لا الشريعة، وأفضل ما يمكن أن نستدل به على ذلك أعظم محاولتين في هذا الباب، وهما مجلة الأحكام العدلية (القانون المدني في زمان الدولة العثمانية) ومجلة الأحكام الشرعية (المحاولة التي بدأها الملك عبدالعزيز، رحمه الله، ولم تستوعبها عقول من حوله).

أما الأولى (مجلة الأحكام العدلية) فقد كانت نتاج وضعية ثقافية تشبه كثيرا الوضعية التي نعايشها الآن، حيث تطور العالم من حول الدولة العثمانية، بينما كانت تتحرك هي بثقل، فوجدت أنها لا بد لها من تطوير بيئتها القانونية، فاستصدرت عددا من القوانين (كانت تسمى في ذلك الوقت التنظيمات) وكانت في مجملها مستوردة من الغرب في قوالب جاهزة (كما نفعل نحن اليوم)، مما أوجد في بعضها ما لا يلائم الشريعة الإسلامية، فتوجهت الدولة العثمانية نحو جمع القواعد الفقهية في مجلد واحد مع إعادة صياغة أحكام المذهب الحنفي على شكل مواد مبوبة في أبواب وكتب وفصول، مثلها في ذلك مثل مواد التنظيمات الأخرى.

مجلة الأحكام العدلية ألهمت الملك عبدالعزيز، رحمه الله، فكرته العظيمة عن وضع مجلة الأحكام الشرعية، بحيث تقوم عليها لجنة من أكابر علماء المسلمين من المذاهب الأربعة، مقدمين في ذلك مصالح المسلمين ومستقين الأحكام من الكتاب والسنة، وعلى الرغم من أن هذه المجلة لم تر النور، وفقا لما أراده الملك عبدالعزيز، رحمه الله، إلا أن الشيخ عبدالله القاري قد صاغ لنا مجلة الأحكام الشرعية على المذهب الحنبلي.

ولهذا، فإن النزاع الحاصل هو نزاع في غير محله، إذ لا بد أن نضع القوانين الملزمة وأن نعالج جميع أبعاد الحياة من خلالها، وذلك في إطار مقاصد الشرع ووفقا لها، متلافين التعارض مع صريح نهيها أو أمرها، وبهذا نحن لا نقنن الشريعة ولا نحيل نصوصها إلى نصوص قانونية، بل "نطبقها" ونطبق أحكامها ومقاصدها من خلال النصوص القانونية التي نضعها.