شهد مجال الإبداع في المملكة العربية السعودية خلال السنوات الأخيرة نقلة نوعية مميزة لفتت أنظار المعنيين بالإبداع والابتكار على المستويين المحلي والعالمي. وتمثلت هذه النقلة في مسارين أولهما تبني الموهوبين ودعمهم، وثانيهما زيادة أعدادهم سنويا في مختلف مجالات الإبداع والبحث العلمي، وهو ما جعل الموهوبين يمثلون اسم المملكة في الخارج في عدة فروع وتخصصات وينالون مجموعة من الجوائز نظير تميزهم في الابتكار، عوضاً عن إشادة الجميع بما حققته المملكة من إنجازات في مختلف مجالات العلم والمعرفة.

فمن العلوم الفيزيائية والكيمائية مرورا بفنون الهندسة وعلم الطب، سجل السعوديون والسعوديات إبداعهم الكبير ونثروا ملامح التميز بكل مهارة وفن على مبتكراتهم، وتولت مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع (موهبة) منذ إنشائها مهمة تبني الموهوبين والأخذ بيدهم نحو طريق التميز والإبداع عبر تنمية مهاراتهم في أول ولادتها، والأخذ بيدهم خلال مراحل شق طريق الموهبة في كل ما من شأنه تشجيعهم على النجاح والتميز وصناعة الإبداع وتطوير موهبتهم بما يتوافق مع خطط التنمية والتقدم التي تسير عليها المملكة.

تصنيف الموهبة

ويواجه الموهوبون في طريقهم عددا من العوائق التي تختلف من موهوب إلى آخر اعتمادا على تصنيف موهبته من جانب، والدعم المقدم لهذه الموهبة من جانب آخر. وفي الحالتين تحتاج منهم هذه العقبات العزيمة المليئة بالإيمان والإصرار الممزوج بالتحدي من أجل تخطي تلك العوائق بكل ثقة واقتدار في سبيل التميز والإبداع حتى الوصول إلى النجاح وتسجيل اسم المبدع والمملكة في حقل الإبداع والابتكار وهو ما يعود بشكل إيجابي على المستوى الشخصي للفرد والمستوى الوطني للمملكة.

"الوطن" فتحت ملف الموهبة بكل ما لها وما عليها، وتحدثت مع مختصين حول آلية دعم الموهوبين وتشجيع الإبداع.

كشف مستشار "موهبة" الدكتور عادل القعيد في حديثه لـ"الوطن"، أن عدد الموهوبين الذين ترعاهم المؤسسة يتراوح بين 5 آلاف و6 آلاف طالب سنويا، وذلك يعتمد على عدد ونوعية البرامج التي تنفذها المؤسسة طوال العام.

فهناك البرامج الصيفية التي تستقطب 3 آلاف طالب بجانب أولمبياد الإبداع العلمي والذي يشهد كل عام انضمام 50 ألف طالب في مجالات متنوعة ومختلفة في الإبداع. فبين العلوم والتقنية مرورا بالرياضيات والتكنولوجيا وتقنية النانو بجانب الكيمياء الحيوية والفيزياء ومسارات الابتكار العلمي وتقنية المعلومات وكل ما يتوافق بصلة مع خطط التنمية في المملكة.

إثراء الساحة

وتابع القعيد: إن دعم القطاع الخاص للموهوبين في البلاد محدود وقليل جدا ويسير على استحياء، وهو أمر يتعارض مع مسيرة التنمية والتطوير والاستثمار في المنطقة عبر تبني مشاريع الموهوبين وتقديم الدعم المادي والمعنوي لهم كي يثروا الساحة الإبداعية بابتكاراتهم ما يدعم الاقتصاد الوطني.

واعتبر القعيد دعم القطاع الخاص واجبا وطنيا متمثلا في ما يسمى بالمسؤولية الاجتماعية التي تقع على عاتق الشركات في المنطقة، خصوصا الكبرى منها. وهو ما يؤثر بشكل إيجابي في المملكة ويشجع الموهوبين على العطاء والتميز والسير بموهبتهم إلى الأمام متخطين كل العثرات التي تمر في طريقهم بكل تميز واقتدار انطلاقاً من يقينهم بموهبتهم وإيمانا بأهمية التطوير والتنمية في كل إبداع.

خطط مستقبلية

وأشار القعيد إلى أن الخطط المستقبلية للمؤسسة تتمثل في جانبين أولهما يخص التوسع في البرامج الحالية التي تقدمها المؤسسة، سواء من ناحية الكم أو من ناحية الجودة، وذلك بما يخدم الموهوبين ويصقل مواهبهم، وثانيهما إعداد الخطة الخمسية الثالثة لـ"موهبة"، وأهمها إنشاء أكاديمية للموهوبين تتبنى إبداعهم وتميزهم والبدء في تفعيل المدارس الافتراضية أو فصول الموهوبين حيث يتلقون التعليم فيها عن بعد بالاعتماد على تقنية الإنترنت وكل جديد في عالم التميز والإبداع بجانب تدريب المعلمين المشرفين على الطلاب الموهوبين، وذلك باستهدافهم بمجموعة من البرامج الهادفة والمؤثرة. وأكد أن هذه الخطة ستلقى المزيد من الاهتمام في المرحلة القادمة عبر التركيز على مسار التدريب والتعليم الإلكتروني اللذين يعتبران مكملين لبعضهما بعضا ويحققان رسالة المؤسسة وحول فصل أو دمج الموهوبين في الفصول الدراسية.

وذكر القعيد أن كلا الأسلوبين جيد ومفيد وتؤيده المؤسسة، وأثبتت كل طريقة نجاحها حيث تهدف المؤسسة إلى دمج الموهوبين مع غيرهم من الطلاب في الفصول ثم فصلهم وبعد ذلك إنشاء أكاديمية خاصة بهم.

تعزيز الإبداع

وعن العوائق التي تعترض طريق الموهوبين أفاد الدكتور القعيد أن أبرز صفات الموهوبين تتمثل في الإصرار والمثابرة وتوفر الدافع تجاه تنفيذ المهمة والإبداع في العمل بجانب التفاني في استثمار الموهبة والاستفادة من الدعم الذي تقدمه المؤسسة بما يعزز جانب الإبداع لدى الموهوب ويعينه على إكمال طريقه في مجال التميز وحقل الابتكار معتمدا على تطوير ذاته أولا وموهبته ثانيا، الأمر الذي يثري مسيرته في الإبداع والابتكار.

دعم نوعي

من جانبها، أوضحت مديرة إدارة الموهوبات في تعليم المنطقة الشرقية ابتسام المزيني في حديث إلى "الوطن"، أن دعم الموهوبين في المملكة شهد خطوات نوعية وملامح مشرقة من قبل وزارة التربية والتعليم التي كانت سباقة في تقديم كل سبل العون والتشجيع للطلبة الموهوبين في مختلف المجالات خصوصاً وإن تابعنا بكل كثب تجارب الدول الأخرى سواء تلك المجاورة لنا أو البعيدة عنا في تبني الموهوبين فنجد بلادنا متقدمة كثيرا في هذا الجانب. فالموهوب في المملكة يحظى بدعم كبير يتضمن استهدافه منذ اكتشاف موهبته ببرامج تعليمية وتوعوية من شأنها تعزيز الموهبة وتغذية الحس الابداعي وإطلاق الطاقات الكامنة في نفس الموهوب كي يبدأ طريق الإبداع بخطى ثابتة وخطة مدروسة توصله إلى النجاح.

وتدل على ذلك مشاركة عدد كبير من الموهوبين من الجنسين، ذكورا وإناثا، في مسابقات عالمية استعرضوا من خلالها إبداعاتهم وأبحاثهم التي نالت استحسان الجميع على المستويين المحلي والدولي.

دور العائلة

وأشادت المزيني بـ"موهبة" التي أولت الموهوبين كل رعاية واهتمام بجانب إدارة الموهوبين التابعة لإدارة التربية والتعليم والتي افتتحت في المنطقة الشرقية مؤخراً، معتبرة أن كل جهة مكملة للأخرى في سبيل تبنى موهبة الطالب والأخذ بيده في طريق الابتكار، خصوصا أن اكتشاف الموهبة، أيا كان نوعها، ليس بالأمر الهين السهل فقد يغفل الوالدان أو الأسرة بشكل عام عن تلمس ملامح موهبة ابنهم أو ابنتهم وتكون حينها البيئة المدرسية هي المكتشف لهذه الموهبة.

كما أن على العائلة دورا كبيرا في احتضان الموهبة، فالدور المعنوي مطلب ملح في هذا الجانب، فعبارات التشجيع وكلمات الدعم لها دور مؤثر في تطوير الموهبة. وطالبت المزيني المجتمع بكافة أطيافه بتفهم احتياجات الطالب الموهوب، أيا كانت تلك الاحتياجات؛ معنوية أو مادية صغيرة كانت أو كبيرة. فكل دعم مهما كان حجمه يمثل أهمية للطالب الموهوب الذي يتشجع حينها لإبراز موهبته وصقل مهارته.

جهود شخصية

وشددت المزيني على أن القطاع الخاص ينبغي أن يقوم بدوره في المسؤولية الاجتماعية عبر تقديم الدعم المادي والمعنوي للموهوبين وتبني ابتكاراتهم بشكل جدي وهو ما يؤثر بصورة إيجابية وكبيرة في الموهوب من جانب ومجال الموهبة من جانب آخر، خاصة أن كثيرا من البرامج المقدمة للموهوبين تحمل طابع الجهود الشخصية انطلاقا من إيمان المشرفين أو المعلمين في إدارة التعليم بأن الطالب الذي لديه موهبة معينة يحتاج الدعم والتشجيع.

وهنا يبذلون كل الجهود من أجل تطوير الموهبة وتعزيز الإبداع في نفس الطالب الموهوب وهم بذلك يحتاجون للتعاون من كافة الجهات والأفراد كي يكملوا مسيرتهم دون عائق أو حجر عثرة في طريقهم، مؤكدة على أهمية توفر مناهج مخصصة للموهوبين تتناسب ومستوياتهم ومتطلباتهم وهو ما سيحقق نقلة نوعية في التعليم مع أهمية تفاعل الإعلام بمختلف وسائله مع ابتكارات الموهوبين عبر التعريف بهم ونشر إبداعهم وتكريمهم في المحافل ومختلف المناسبات باعتبارهم قدوة حسنة ومثلا يحتذى بهم.

تقصير الإعلام

واعتبرت المزيني الإعلام مقصرا كثيرا في استعراض نتاج الموهوبين والالتقاء بهم وأن دوره يقتصر على مشاركات الموهوبين الدولية فحسب وذلك دون ترجمة هذه المشاركات بلغات العالم ونقلها لوسائل الإعلام الأجنبية من إذاعة وصحافة وتلفزيون، خاصة وأن الجميع يعلم دور الإعلام وتأثيره القوي في الجمهور، إلا أن هذا الدور يكاد يكون شبه غائب عن الموهوبين وهو ما يحبط من عزائمهم في مسيرة الإبداع حين لا يجدون ذلك التفاعل الكبير معهم والإشادة بموهبتهم.

وأشارت المزيني إلى أن عدد الموهوبات بالمنطقة الشرقية من الطالبات يصل إلى 1050 طالبة بحاجة إلى دعم من القطاع الخاص الذي يعتبر دوره ضئيلا في هذا الجانب مقارنة بأعداد الشركات الخاصة في المنطقة والتي يتزايد عددها في السنوات الأخيرة بشكل كبير إلا أنها مقصرة كثيرا بشكل أو بآخر في تبني الموهوب بعدة طرق، سواء باحتواء موهبته أو بحثه عبر الدعم المادي أولاً ومختلف صور الدعم ثانياً.

وتابعت المزيني: كما أن المستشفيات لا تتعاون كثيرا بإتاحة مختبراتها بشكل كلي للموهوبين كي ينفذوا تجاربهم العلمية، والمدارس الأهلية هي الأخرى من المفترض أن تقدم منحا للموهوبين للدراسة فيها بالمجان كنوع من المشاركة في الدعم بتقديم تعليم نوعي من شأنه تطوير الموهبة.

تمنية الذات

وذكرت المستشارة في "موهبة" الدكتورة نوال الضبيبان خلال حديثها مع "الوطن"، أن هناك من الموهوبين من يعتقد أن موهبته كفيلة بفتح المجال أمامه للتميز والإبداع دون أن ينمي ذاته بشكل أولي ويعتمد على المؤسسات العلمية في دعم موهبته وتهيئة الطريق أمامه للابتكار بل يذهب أبعد من ذلك حين يعتبرها المسؤولة عن اكتشاف موهبته وتطويرها وتقديم كل أنواع الدعم من أجل صقل الموهبة، وكل ذلك بلا شك ليس من صفات الموهوب بل عليه أن يطور موهبته بكل الطرق والوسائل انطلاقا من ذاته أولاً وعائلته وأصدقائه ثانيا، أما المدرسة والمؤسسات التي ترعى الإبداع فيأتي دورها بعد هؤلاء.

وتضيف: يتطلب من الموهوب المقتنع بموهبته والمؤمن بإبداعه، أن يتواصل مع الجهات المعنية بموهبته ويبحث كل السبل والطرق معها كي تكون المعين له في إتمام طريقه. وأشارت الضبيبانإالى أن هذا الاعتقاد موجود لدى أهل الموهوب الذين يعتقدون أن وزارة التربية والتعليم مطالبة بتبني موهبة ابنهم وحدها دون مشاركة أخرى، متجاهلين دورهم ودور القطاع الخاص أيضا والمجتمع بكل أطيافه بجانب الوزارة معا في تحقيق هدف واحد هو دعم الموهوب.

مدارس للموهوبين

وأكدت الضبيبان على الحاجة لافتتاح مدارس خاصة بالموهوبين خاصة مع تزايد أعدادهم في عدد من مناطق المملكة، مما يتطلب افتتاح مدارس خاصة بهم تتبنى إبداعهم وتقدم لهم مناهج متخصصة تتناسب وموهبتهم دون دمجهم مع غيرهم من الطلاب وهو ما يعتبر تجاهلا وعدم تقدير للموهبة حيث إن فتح مدارس لهم من شأنه أن ينمي موهبتهم ومخالطتهم لمن يملكون الموهبة يعينهم كثيرا في تبادل الهموم والعوائق التي تعترض طريقهم ويتشاركون في إفادة كل منهم الآخر بما يملك من موهبة في مجال معين وهو ما سينعكس إيجابا على مخرجات التعليم.