ذلك الجبين الذي يتصبب عرقا وقد رسم الزمن عليه خطوطه بإتقان بالغ لنقرأ على صفحته قصص الكفاح والتضحيات التي قدمها صاحبه لهذا الوطن، تلك اليدان المرتجفتان تمسكان بلطف يد زوجته التي تعاني مثله من ثقل السنين على جسدها حتى غدت بالكاد تقوى على الحراك، والوقوف بجانبه كما كانت تفعل أيام القدرة لتساند زوجها في تضحياته لصالح هذا الوطن.

هذا ليس مشهدا واحدا بدأ وانقضى، بل هو قصة كاملة تضج بها البيوت وتئن منها القلوب حين تنظر لحال أولئك الذين كبروا وشاخوا (رجالا ونساء) في خدمة الوطن، وحين أتاهم وقت الراحة ليشكرهم الوطن، وجدوا أن شكرهم ينقصه الكثير من الحقوق التي تفرضها أبسط قواعد الشكر.

هذا الشيخ وزوجه بمجرد أن يتقاعد فإن مرتبه تنسل منه كل تلك الاستحقاقات والبدلات التي كان يحصل عليها أثناء عمله، ليكون معاشه التقاعدي في ذات الضعف الذي يعانيه جسده، في الوقت الذي وصلت فيه مصاريفه واحتياجاته ذروتها ليبدأ الالتفات نحو مصادر أخرى للدخل لا تعينه عليها ظروف سنه ومفاهيم مجتمعه.

هذا الشيخ وزوجه عرضة للأمراض أكثر من غيره وفي حاجة إلى العلاج أكثرمن غيره، وبمجرد التقاعد نجد أنه أمام خيارين، إما انتظار مواعيد المستشفيات الحكومية (التي تصل لأشهر طويلة لا يستحملها جسده) أو سداد تلك الفواتير الباهظة والتكاليف المرتفعة التي تكلفه إياها مراجعة المستشفيات الأهلية بغض النظر عن ضعف أداء كثير منها، فشركات التأمين الطبي لا تقر بآدمية هؤلاء الشيوخ ولا تعترف بحقهم في الحياة والعلاج فترفض التأمين عليهم لأنه من الناحية التجارية والمالية البحتة يعني خسارة شبه محققة.

هذا الشيخ وزوجه بحاجة فعلا لأن يشعرا بأنهما مازالا آدميين، وأن شهادة "متقاعد" هي وسام على الصدر ومزيد من الاستحقاقات، وليست توجيها لهما بأن يرحلا من هذه الحياة في صمت دون إزعاج وكأنه توجيه لهما مفهومه "مت قاعد"!

منظومة التقاعد القانونية لدينا هنا في بلد الكرم والجود، تحتاج فعلا إلى إعادة صياغة ومراجعة بحيث تتحول حياة المتقاعد من حياة الكفاف إلى حياة الرفاهية والشكر الذي يستحقه، دون أدنى تكاليف إضافية على الدولة.

نظاما التقاعد المدني والتأمينات الاجتماعية بوضعهما الحالي، يحولان العلاقة بينهما وبين المواطن إلى علاقة حساب اكتوارية بحتة وتعطيه من الأموال النزر اليسير مع مستوى شفافية متدن بالنسبة لمدخولات مؤسستي التقاعد المدني والتأمينات الاجتماعية وما ينتج عنهما من استحقاقات.

في موقع المؤسسة العامة للتقاعد تنص أهداف المؤسسة على:

• تأمين مورد مالي للمتقاعدين من موظفي الدولة المدنيين والعسكريين والمستفيدين منهم بعد انتهاء خدماتهم الوظيفية حسب ما يقرره نظام التقاعد وفقا لمبدأ التكافل الاجتماعي.

• تنمية الموارد المالية للمؤسسة سعيا إلى تحقيق التوازن المالي بين موارد المؤسسة والتزاماتها.

• تفعيل قنوات التواصل بين المتقاعدين وفئات المجتمع في مختلف نشاطاته بما يحقق الفائدة المشتركة لمتقاعدي المؤسسة والمجتمع.

• دعم النشاطات والخدمات الخاصة بالمتقاعدين وفقا لما تحدده اللوائح.

وبموجب هذه الأهداف وتلك التي تشبهها للتأمينات الاجتماعية، نجد المؤسستين تساهمان بنشاط منقطع النظير في استثمارات الدولة الكبرى وكأنهما صندوق سيادي، ولكن عوائد استثماراتهما لا تعود على المتقاعدين بأي دخل إلا ما يتحصلون عليه من معاش تقاعدي، على الرغم من أن 50% من دخل المؤسسة العامة للتقاعد الذي تستثمره المؤسسة هو من هذا "المت قاعد"، أما المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية فتقريبا 40% من المتقاعد و60% من رب العمل (الذي سيكون مصيره إلى التقاعد يوما ما والذي لا تقدم له المؤسسة أي خدمات ولا تشركه في عوائد أي مشاريع).

هذه النسب تعني أن هذا المتقاعد شريك بهذه النسبة ذاتها مع المؤسستين في جميع مشاريعهما، وبالتالي فهما أمينان على استثماراته ويجب عليهما إشراكه في الأرباح بذات القدر ويجب عليهما أن يفصحا عن مداخيلهما وأرباحهما له من خلال موقعهما.

هذا يعني أن المعاش التقاعدي وفقا للحسابات القائمة هو الحد الأدنى لدخل المتقاعد بينما يكون له مدخول آخر من خلال نصيبه من أرباح الشركات والمشاريع الاستثمارية التي تقوم بها المؤسستان، بما في ذلك نماء الأصول من خلال تملكه للأسهم في المشاريع التي يتم تأسيسها والاستثمار فيها.

أيضا يجب على المؤسستين أن توفرا تغطية تأمينية طبية مع شركات التأمين لكل متقاعد بحيث يضمن هذا المتقاعد إمكانية العلاج في مستشفيات القطاع الخاص دون أن يحمل هما في أن يتم قبول علاجه أو لا خصوصا أن معظم أمراض الشيخوخة هي من الأمراض المزمنة التي لا تغطيها شركات التأمين.

تعديل هذه الآليات كما ذكرت سيكون له أثره على تسرب الكفاءات من القطاع العام إلى القطاع الخاص، وسيكون له أثره على وضع برامج تحفيزية مناسبة لإنتاجية الموظفين، وسيكون له أثره على أن يركز الموظف في عمله بدلا من مخالفة النظام وممارسة التجارة بطرق ملتوية ومنافسة التاجر المتفرغ بما يضر السوق ولا ينفعه كما يفعل الكثير، وكذلك تنويع نسب الاستقطاع وفقا للمعايير المتبعة دوليا في صناديق الاستثمار لاستقطاعات التقاعد.

من منبر "الوطن" أقدم هذا النداء إلى المؤسستين لكي تعملا على تحقيق رفاهية المواطن الذي خدم الوطن وأسهم في تنميته، بأن يشركاه شراكة حقيقية في هذه المشاريع.