في حديث جانبي مع أحد الطيارين القدامى في الخطوط السعودية ذكر لي أنه على كثرة المطارات التي زارها ويزورها حول العالم إلا أنه يشعر أن موظفي الجوازات والجمارك وموظفي خدمات المناولة الأرضية أبناء قبيلة واحدة، لهم ذات الطباع ولهم ذات آلية التفكير ومنهجية التعامل مع الآخر فيما عدا شيء من التمايز بين دولة وأخرى بحكم أنظمتها الداخلية.

أثارتني ملاحظته جدا ودفعتني لسؤاله عن السبب في تصوره الذي يجعل هؤلاء يتصرفون وكأنهم أبناء قبيلة واحدة، على حد وصفه، فأجابني أنهم جميعهم يتعاملون مع النظام والقانون، لا مع الأشخاص، وجميعهم تم تدريبهم وفقا لمنهج هذا القانون. يقول إنك تستطيع أن تلاحظ الفرق فقط عندما تتعامل معهم خارج نطاق وظائفهم، إذ يعود كل منهم ابنا لبيئته، لا للقانون الذي يحكم وظيفته، وبالتالي يحكم العلاقة بينه وبين الآخر في إطار تلك الوظيفة.

إنها ملاحظة مهمة نغفل عنها كثيرا، حين يسود القانون فإنه يفرض طابعه وتفاصيله على تلك المجموعة التي تقع في نطاق سطوته ومجال اختصاصه، وبالتالي فإنه يفرض على تلك المجموعة مهما تباينت طباعها وتصوراتها ومواقعها، أن تتعامل بآلية فيها شيء من التشابه. فموظفو الجمارك الذين أشار إليهم الكابتن مثلا، يعملون في دولهم من خلال قوانين معينة ناتجة عن اتفاقات دولية وقعتها دولتهم مع دول أخرى تبين علاقة الدولتين فيما يخص الجمارك، وبالتالي تجد تحفزهم عند استقبال الرحلات وتفتيش الحقائب وآلية سؤال الجمهور تتشابه إلى حد كبير بحكم ما فرضه القانون عليهم. ذات الأمر يفرض نفسه على موظفي الخدمات الأرضية في المطارات أيضا، فهم ينفذون الأنظمة والتعليمات الدولية دون أن يشعروا من خلال تلك الأنظمة الداخلية التي يتعاملون معها والتي بنيت بدورها على الأنظمة الدولية التي اتفقت عليها الدول في هذا المجال.

هذا الحديث نقلني لتصور آخر أرى فيه العالم قبيلة كبيرة يحكمها شيخ واحد اسمه الشيخ قانون!

وبدأت أسبح في خيالي ماذا لو حصل هذا فعلا؟ كيف سيكون شكل العالم حينها؟ هل ستحكمه ذات الحروب وذات المصالح؟ وهل سيسود عليه ذات المستوى من العشوائية والدمار؟ هل سيصل التباين بين الناس حينها والتنافس إلى ما وصل إليه الآن؟

حين يكون القانون هو شيخ القبيلة بمفهوم شيخ القبيلة المطاع، وصاحب الأمر الذي لا يناقش، فإننا سنكون ملتزمين بما يفرضه هذا القانون، بغض النظر عما تعترينا من نوازع فردية وشخصية تفرض نفسها علينا لمحاولة التغلب على تلك الأوامر، سيكون من العار على أي منا أن يخرج عن أمر الشيخ قانون شيخ القبيلة المطاع، وبالتالي سنلتزم بأمر القانون دون الحاجة للحسيب والرقيب، ودون الحاجة لتلك الأسوار العالية والحواجز المكلفة التي نحتاجها لفرض القانون، سيكفي حينها أن يكون هنالك خط أصفر بين جانبي الطريق لكي يحـترم كل منا مسار اتجاهه، بدلا من ذلك الرصيف المكلف الذي نحتاجه الآن لكي نضمن ألا يدخل على مسارنا أحد بعكس الاتجاه.

حين يكون القانون هو شيخ القبيلة لن تكون هنالك واسطة، ولن تحتاج لأن تبحث عن شخص يساعدك في سير معاملتك، فالقانون يتعامل مع أفراد قبيلته على أنهم سواسية كأسنان مشط، ويفرض عليهم ذات الالتزامات ويضمن وصول استحقاقاتهم دون الحاجة للواسطة.

حين يكون القانون هو شيخ القبيلة، ستكون المفاضلة بين الناس بموجب احترامهم للقانون، لا بموجب مكانتهم الاجتماعية وأموالهم وجاههم، وسيكون أفضلهم عنده ذلك الذي يلزم قوله ولا يحيد عنه، بل ستكون عقوبة الأقرب منه أشد من عقوبة الأبعد عنه.

حين يكون القانون هو شيخ القبيلة، ستكون هنالك مطالبة للمسؤول بأن يفصح عن أمواله قبل أن يتولى منصبه، وستكون هنالك مساءلة مشددة له حين يترك ذلك المنصب بشأن ما قام به من أعمال وما أداه من التزامات، سيكون المسؤول وتابعو المسؤول محاسبين على صدقهم أمام وسائل الإعلام وعلى دقة الأرقام التي يقدمونها للناس، لأن شيخ القبيلة لن يرحمهم حين يكتشف عدم صدقهم أو مبالغتهم.

حين يكون القانون هو شيخ القبيلة، ستفقد الأنساب والأحساب قيمتها، فالنسب والحسب حينها هو مقدار الالتزام بنصوص الشيخ قانون التي يفرضها على المجتمع، سيكون الخلاف بين الناس حول فهمهم لهذه النصوص، وسيكون الفصل والقضاء بينهم وفقا لهذه النصوص دون خوف من تأخر القضاء أو أن يكون للمكانة الاجتماعية أو الجنسية أو اللون والنسب دور في حكم القضاء.

للرقي بالمجتمع، فإننا نحتاج في مجتمعنا لأن ينشأ الناس على احترام كلمة القانون وكأنه شيخ القبيلة المطاع فعلا، وأن يتم تكريس ذلك في مدارسنا من خلال فرض النظام وفرض احترامه.

إنها فرصة سانحة لسمو وزير التربية والتعليم أن يضع من ضمن مهام منصبه الجديد ضمن مفهوم "التربية"، مهمة تكريس احترام القانون والأنظمة والإجراءات لكي نعالج كثيرا من الأمراض التي تفشت في مجتمعاتنا بسبب ضعف موقف الشيخ قانون.