شعيب بن ميكيل بن يشجن نبي كانت رسالته لأهل مدين الواقعة الآن في منطقة يقال لها "البدع" قريبا من تبوك في شمال غرب المملكة العربية السعودية، يقال عنه إنه خطيب الأنبياء لفصاحته وجمال بيانه في دعوته لقومه.

كان أهل مدين مشركين، لكن جرمهم الذي تكرر في القرآن كثيرا لم يكن الشرك ذاته فقط بل كان فساد تجارهم وقد كانوا أهل تجارة وزرع، إذ كان موقع مدينتهم استراتيجيا على ملتقى الطرق بين الشام والجزيرة، مما يفرض على غيرهم التعامل معهم وهم في موقع قوة وسيطرة وسطوة تجارية.

يقول تعالى عن خطاب شعيب لقومه: ?وإلى مدين أخاهم شعيبا قَال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قَد جاءتكم بيِنة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين?، عبارة "لا تفسدوا في الأرض" يجب أن ننظر لها ببعدها العملي لا التعبدي فقط، فالإفساد في الأرض لا يتوقف على الشرك فقط، وإنما على نتائج فساد التعاملات التجارية من عدم وفاء للكيل والميزان ومن بخس للناس في تجارتهم معهم، وهو ما أجمله القرآن في لفظة "التطفيف" التي توعد أصحابها بالويل.

كرر شعيب الدعوة من أبعادها المختلفة فبعد أن نبههم لخطر نتيجة الفساد التجاري بين لهم أيضا أنهم في غنى عنه: ?وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط? وكذلك نبه شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام إلى نقطة غاية في الأهمية وهي جزئية تكوين القدوة والمثل من قبل المسؤول أو المبادر بالدعوة لمذهب اقتصادي أو عملي معين إذ قال شعيب لقومه: (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت)

في طيات قصة شعيب رسالة لكل تاجر، ولكل مقدم للخدمات منذ تلك الأيام حتى يومنا هذا، رسالة تقول إن كثيرا مما نراه اليوم في أسواقنا من غش في المواصفات والمقاييس ومبالغة في القيمة في مقابل تخفيض المواصفات والتلاعب في أوراق الجمارك واستيراد البضائع المقلدة وبيعها على أنها بضائع أصلية، وعدم تقديم خدمات ما بعد البيع بالشكل اللائق، والمبالغة الكاذبة في الدعاية وغيرها من السيئات التي نعايشها كل يوم في أسواقنا حتى أصبحت هي العادة، هي من باب "الإفساد في الأرض" كما وصفها القرآن على لسان شعيب عليه السلام.

هذه الأفعال جميعها مثل حجر الدومينو نبدأها من باب الشطارة والتذاكي على الغير وننتهي لأن تصيبنا في عقر دارنا بمشكلة أو مصيبة، فكم مصعد توقف بصاحبه أو سقط به في هاوية عمارته لأنه أراد أن يوفر في مواصفات المصعد وأن يوفر في تكاليف ومصاريف الصيانة، وكم من حالة تسمم أصابت الناس جراء استخدام أكل غير صحي أو محفوظ بطريقة غير صحية مع تقديمه للناس على أنه طعام خمسة نجوم.

هذا التدهور في المقاييس والمعايير ومنظومة "القيم" في مجال التجارة له أسبابه التي يجب أن نتعامل معها بكل حزم، وأول أركان الخلل في منظومة "القيم" في التجارة هي ضعف الأنظمة المتعلقة بالمقاييس والمعايير وحماية المستهلك، والخلل والضعف في تنفيذها وتنفيذ أحكامها (وهو ما بدأت وزارة التجارة في تعديله ورفع معاييره مؤخرا)، ويكفيك أن تتابع قضية تقليد علامة تجارية واحدة لتعرف مدى التهافت والضعف الموجود الذي يدفع التاجر الجشع للاطمئنان على طريقة "أبشر بطول سلامة يا مربع".

غياب نظام واضح ودقيق للمقاييس والمعايير وآليات الرقابة عليها، يجعل التاجر أحيانا في حالة سلم مع ذاته أنه لا يخالف النظام، وأنه بالتالي لا ضير عليه إذا استطاع بذكائه أن يأتي بمنتج ضعيف المواصفات بهامش ربح مرتفع، خصوصا وأن رفع المواصفات ومستوى الخدمات مرتبط في ذهن بعض التجار بالخسارة، وهو ما رد به التجار على دعوة شعيب عليه السلام (وقال الملأ الذين كفروا من قَومه لَئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون)، ولهذا فإنه لابد أيضا من رفع مستوى الوعي لدى التجار بهذه المواصفات والمقاييس وأهمية الالتزام بها وذلك من خلال برامج التوعية والإرشاد لهم، وكذلك برامج التوعية والإرشاد للمستهلك في كيفية التعرف على المقاييس الأفضل والمعايير الأسلم للمنتجات، وأيضا كيفية المطالبة بحقوقهم عند عدم أداء السلعة بالمستوى المطلوب.

ضعف هذه الأنظمة وضعف الوعي بها مع غياب الرادع الذاتي لدى البعض حتى ممن تظهر عليهم علامات الالتزام والصلاح، وكأننا نغفل عن أن محل الالتزام الديني ليس هو المسجد فقط وإنما أيضا الالتزام الديني وتقوى الله في التجارة، وأن نعي أن التطفيف وبخس الثمن والغش والفساد التجاري من الأهمية وعظم الذنب بمكان أن أرسل الله لها نبيا، وعذب أهلها حين أصروا عليها، فما بالنا نفعلها مستخفين بذنبها؟