شاءت حقائق الجغرافيا أن يكون الوطن العربي في القلب من العالم القديم. فهو نقطة الوصل بين قارات ثلاث: آسيا وأفريقيا وأوروبا. وقد جعله ذلك، منذ القدم، محط أطماع القوى المهيمنة، إقليمية ودولية. في العصر الحديث، ومنذ العمل الدؤوب من قبل الإمبراطوريات الفتية، على تقاسم تركة الرجل المريض، في الأستانة، أمست البلدان العربية، هدفا أثيرا لدى هذه القوى.

انتهت الحرب العالمية الأولى، بسقوط معظم البلدان العربية، تحت هيمنة البريطانيين والفرنسيين، لكن نتائج تلك الحرب، هيأت لتضعضع تلك الإمبراطوريات، ولبروز ظاهرة حركات التحرر الوطني في القارات الثلاث: آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وانتهت الحرب العالمية الثانية بتربع قطبين على عرش الهيمنة الدولية، هما الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأميركية. ولتنتهي الحالة الثنائية مع سقوط جدار برلين في نهاية الثمانينات من القرن المنصرم، وسقوط الاتحاد السوفييتي لاحقا مع مطالع التسعينات، لتتوج الولايات المتحدة الأميركية كقطب أوحد في صناعة السياسية الدولية.

في السنوات الأخيرة، ومع تبني الرئيس الأميركي الحالي، باراك أوباما سياسات اقتصادية وعسكرية مختلفة، بات واضحا تراجع النفوذ الأميركي، وأننا أمام عالم متعدد الأقطاب، وأن قيادته لم تعد حكرا على الإدارة الأميركية، وذلك هو ما يتسق مع قوانين الطبيعة وسنن الكون.

فما حدث على كوكبنا، على الصعيد السياسي، في العقدين المنصرمين، هو استثناء في التاريخ الإنساني، حيث النظام الدولي يحكمه صراع الإرادات وتوازن القوى، وتتشابك فيه كما تفترق المصالح.

بالعودة لنظام متعدد الأقطاب، توازن العالم، ويعود إلى النمط الذي حكم التاريخ الإنساني منذ أعرق الحضارات، ولتنتهي حالة النشوز التي لحسن حظ البشرية لم تتعد العقدين، من تاريخ طويل تعدى آلاف السنين، منذ عرفت البشرية الاجتماع الإنساني، وأشادت المدن والحضارات والإمبراطوريات.

والسؤال المنهجي الذي يواجه العرب، ما الذي ينبغي عليهم فعله تجاه هذه التطورات التي ستكشف الأيام القادمة أنها أكثر عمقا مما بدا على السطح؟ ويترجم ذلك السعي الأميركي المحموم للانسحاب من أفغانستان، والتطورات التي تجري في أوكرانيا، والتسليم لسياسات روسيا بالأزمة السورية، والحديث عن جنيف3 لإيجاد مخرج سلمي للأزمة، مخرج يعيد أمجاد روسيا القيصرية والاتحاد السوفييتي في مياه الأبيض المتوسط والبحر الأسود ومضيق الدردنيل، حيث تمخر الأساطيل والبوارج الروسية.

يحتفظ الصراع الدولي الراهن من صراعات الحرب الباردة بخاصيتين: صراع بين شرق وغرب، وصراع بين شمال وجنوب. فمنظومة البريكس، تضم بلدانا صناعية تنتمي إلى الشرق، وبلدانا أخرى تنتمي للجنوب.

الصراع الدولي أثناء الحرب الباردة حمل شكلين: صراع عقائدي بين الشيوعية والرأسمالية، وصراع بين الأغنياء والفقراء. وساد تقسيمان: عقائدي شق العالم أفقيا بين شرق وغرب، ورأسي، شق العالم من الشمال حيث الأغنياء إلى الجنوب حيث الفقراء.

ولأن أي صراع في العالم بحاجة إلى مؤسسات تعبر عنه، وجدت لدينا مسميات مختلفة تعبر عن مكنون التقسيم. فالشرق والغرب يتصارعان عقائديا واقتصاديا وعسكريا، وفي نطاق كل صراع هناك مؤسسات تعبر عن مصالح كل فريق، لكنهما جميعا يلتقيان عند تعبير الدول الصناعية، التي تمثل قاسما مشتركا بينهما.

في الجنوب، افتراق حاد عن الشمال، جعل منه عالما ثالثا، ضم الجزء الأكبر من سكان القارات الثلاث، آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، عرفت بالدول النامية، بينما هي غارقة في ظلام الفقر والبؤس. ورغم ما تحمله تعابير الاستقلال والسيادة، لدولها، فإنها جميعا انقسمت في تبعيتها لواحدة من الكتلتين المتنازعتين أفقيا.

الصراع الحالي مختلف جوهريا عن سابقه. فهو يخلو من الصبغة العقائدية. فحتى الشيوعية الصينية، لم تعد كما كانت أثناء حقبة ماوتسي تونج، فليست هناك دوغما، بل براغماتية جعلت من الصين تنينا عاتيا، شق طريقه بقوة ليس لها نظير في التاريخ، في عالم الصناعة والمال. أما روسيا، فتخلت طواعية عن عقيدتها الماركسية، في تحول درامي مثير، أفقدها هيبتها وأحالها إلى دولة ضعيفة، إلى أن نهض بها قيصرها الجديد فلاديمير بوتين، في ظروف تحولات دولية صار مؤكدا أنها تسير لمصلحته.

وهكذا فالتنافس الدولي حاليا هو بين أنظمة رأسمالية. ذلك يعنى أن التحالفات العربية، وفي أي اتجاه، هي مع أنظمة من نمط اقتصادي وسياسي واحد، والتنافس بينهما على الأسواق العالمية أمر مشروع. والجانب الإيجابي فيه أنه يتيح لنا الاختيار، بين أقطاب متماثلة في أنماط حكمها واقتصاداتها وسياساتها.

كان الاختيار سهلا أثناء الحرب الباردة، لأن له امتداداته المختلفة. وكان لذلك تأثيره على الاستراتيجيات العسكرية ونوع التسليح. الاختيار كان سهلا، ولكن النتائج خطيرة، شقت العرب إلى معسكر مؤيد للشرق وآخر مؤيد للغرب، ودخلنا في مواجهات وخسرنا الكثير بسببها، ليس أقلها هزيمتنا في حرب يونيو 1967، التي أبعدتنا عن تحرير فلسطين، وفشلنا في تحقيق التكامل بين العرب.

لسنا مضطرون في هذه الحقبة، للدخول في صراعات مع بعضنا بسبب تخندقنا مع الشرق أو الغرب، فجميعهم ينهل من نظرية آدم سميث، دعه يعمل. وليس من صالحنا أن ننساق مع صراع المصالح الذي يحكم العلاقات بين القوى الكبرى؛ فتنافسهم سيكون علينا، وليس لنا.

المنطقي أن تكون لنا علاقات متكافئة، مع أقطاب الصراع الدولي من غير تمييز، إلا ما يخدم مصالح وتنمية بلداننا ويحقق الخير والأمن لنا. وكلما تعددت وتنوعت هذه العلاقات كلما توسعت دائرة الاختيار، وأصبحنا أحرارا غير مقيدين بالخضوع لإملاءات هذا الفريق أو ذاك.

انقسام البلدان العربية في اختياراتها بين الغرب والشرق هو مفيد لنا جميعا، فليس هناك ما يستدعي وضع البيض كله في سلة واحدة. لكن ذلك ينبغي أن يكون ضمن استراتيجية عربية متكاملة، وليس اختيارا محسوبا على أساس المصالح القطرية. وموضوع التحول في العلاقات الدولية هو في سيرورة دائمة، ويبقى باستمرار بحاجة إلى المزيد من التأصيل والتحليل.