لمَّا عرضت مُسلماً لي حاجة

أرجو معونتها وأخشى ذلها

حجبت تحيتها فقلت لصاحبي

ما كان أكثرها لنا وأقلها!

(الشاعر الفقيه :عروة بن أذينة)

لأن كل ممنوع مرغوب، فلا شك أن العنوان استفزك لو كنت من غير المهتمين بالأدب؛ لأننا اعتدنا على ملاحقة المنع لمعرفة أسبابه حتى إن أحد الأصدقاء قال لي يوما غردي قائلة: مقالتي التي لم تنشرها الصحيفة؛ فهذا سلم للشهرة!

ورغم طرافة الفكرة وصدقها إلى حد بعيد إلا أن الممنوع يأخذ أشكالا متعددة، وبما أني امرأة أعلم أن الحجاب بالنسبة لبعض العقول أشد إغراء من السفور لأن الحجاب أثار فضوله فقط، بل حتى الدول التي تدعم الحريات بعضها يحاربه.

وعندما ننتبه لحديث هامس يشدنا أكثر مما لو كانت نغمة الصوت عالية وفي متناول سمعنا وقد لا يكون للحديث قيمة إلا أنه همس!

الصحيفة الإلكترونية الممنوعة جاذبة أكثر من أختها المتاحة لأن عبارة (الموقع المطلوب محجوب) فاتحة لشهية معرفة سبب الحجب، تماما كالحجاب يوهم أن من خلفه أجمل الغيد.

في الأدب الرمز والإيحاء حجاب والغموض حجاب لكنه أحيانا يبدي ما يراد إخفاؤه أو ما لا يراد إخفاؤه ولكنه تهرب من المباشرة!

أذكر أن للشيخ الطنطاوي الأديب العالم رأيا في الغموض ذم فيه لجوء الشاعر لما لا يفهم وأثنى فيه على قول أحمد شوقي:

خدعوها بقولهم حسناء

والغواني يغرهن الثناء

إِن رأتني تميل عني كأنْ لم

تك بيني وبينها أشياء

فالأشياء غموض يثير ذهن من يقرأ البيت ويجعله يتصورها ويعيا عن الوصول لكنهها!

والشعراء عادة أنانيون منغلقون على ذاتهم التي ينفذون منها للذات الإنسانية الواحدة؛ فمن يردد بيت الإمام الشافعي:

نعيب زماننا والعيب فينا

وما لزماننا عيب سوانا

يتوحد مع تجربة الشاعر وينسى أن زمن الشافعي غير كل الأزمنة التالية ولكن العيب واللوم واحد ولو تنوع العائب فهو واحد الإنسان دائما!

ونتوحد مع كل تجارب الحب فنتمنى أن حبيبة عروة لم تحجب تحيتها ونحن للتوباد مع قيس وشوقي ونميل على صخرة عنترة ونموت عشقا مع كل شهداء العشق!

يقول محمد الثبيتي رحمه الله:

"ما بين الخوارج والبوارج ضج بي صبري

وأقلقني مقامي

فمضيت للمعنى أحدق في أسارير الحبيبة كي أسميها

فضاقت عن سجاياها الأسامي!"

بين يدي الثبيتي شربنا الوطن في الكؤوس وعرفنا أن أبسط تعريف للمنزل أن نغلق بوابة الريح ونلقي المفاتيح!

الشعراء سفراء اللغة والمشاعر وسحرتها يصرفون أذهاننا بصورهم عن كل واقعنا ويحملوننا على أجنحة الخيال بمركبة الزمن فيحددون لنا موقع بقايا طلل أو يصعدون بنا جبلا؛ ومع خيالهم العاشق نتصور ليلى ولبنى وعبلة وعزة أجمل النساء ونفاجأ ونرفض ألا يكون ذلك؛ فكم صدمتني رواية عن أن ليلى لم تكن جميلة وأخذت أبحث عما يكذبها ولم أصل إلا لروايات تصدق تلك الرواية!

ولو رحلنا للكتاب نجد أن الكتب الممنوعة أكثر إغراء وقراءة، ومن عجائب المنع أن تمنع كتب لغازي القصيبي -رحمه الله- حين كان الوزير الآمر الناهي والسفير الخلاب وهي اليوم متاحة لأنه لم يكن هناك سبب للمنع؛ كما قرأت قريبا أن أحد أشهر وزرائنا المرتبطين بالثقافة اليوم له كتب ممنوعة!

يبدو أن فكرة التحريم والمنع هي الأقرب لبعض العقول، فبدل أن تضطر لقراءة كتاب تلجأ لمنعه دون وجه حق وقد يكون السر في العنوان!

في النقد أيضا نجد الممنوع وهو أن من يمارس النقد قد لا يقبل ما يوجه لعمله من نقد مضاد، مع أن نقد النقد أعلى درجات الشفافية في المجتمع؛ وهو بالضبط ما يقوم به الأفراد ومؤسسات المجتمع المدني والإعلام غير المسيس في الغرب والشرق. والنقد الواعي هو الطريق لمحاربة الفساد في المجتمع، فنقد العجز عن النزاهة نزاهة، وفي الفكر أيضا النقد صقل للعقول؛ فحين يمجد ناقد نصا لا يستحق التمجيد، وهو أعلم الناس برداءته فهو يزيف وعي المجتمع وذائقته التي تثق بالناقد؛ وحين تثبت قضية ما بأكثر من دليل نقلي وعقلي وتأتي جهة ما رسمية أو إعلامية لنفيها متجاهلة أهمية الشفافية في قضايا الوطن، فهذه الجهة بحاجة لنقد حاد وجاد.

ولو تأملنا التكفير كفكرة تجر علينا الويلات اليوم لو قاومناها بالنقد للمكفر فليس لمسلم أن يكفر مسلما أبدا؛ لو محصنا الفكرة تجنبنا الطائفية القاتلة لكل جميل.

حدث انفجار ناقلة غاز ، فخرج أول تصريح من وزارة الصحة أنه لا توجد إصابات مع أن شهود الانفجار كانوا يتداولون صور القتلى والسيارات المتأثرة بالحادث، فثقافة الصمت والإنكار والتردد في بسط الحقيقة لم تعد مجدية بل تقلل من الثقة..

أخيرا هل يحظى كل (مواطن) برعاية وشفافية تجعله يثق ويقتنع بما يقدم له من أخبار؟!

تساؤل آمل.