تتناسل المشكلات على سطح الواقع وتجتر بتفاعلاتها الآنية مدخرات التخلف التاريخي المثقل برواسب الثأر وحكايات الوقيعة والكيد. وخلال هذا التناسل والاجترار تتعاقب الأجيال المضطغنة وبصحبتها مسلمات الإرث العصبوي التي ترتهن عملية التطور الاجتماعي لحسابها، وهي بهذا تخضع قيم العصر وتحدياته لاختباراتها الشاقة.

عالقون على مسرح الظواهر وغارقون في متاهة الأعراض وليس من تفاوت مفصلي بين بلد عربي وآخر إلا من حيث منسوب الخطر ومقدار الأثر المباشر على دولة قياساً بأخرى.

وإذا حدث تمايز واضح فإن أمثلته تتلخص بما تتيحه إمكانات إحداهما من وسائل للسيطرة على الأعراض والحد من تحولها إلى بثور ملحوظة على العكس من وهن الأخرى وضعف مواردها الاقتصادية. فهل صارت رسالة الحياة لدينا مجرد ظاهرة حركية على السطح نقضيها تشابكا وملاسنة وجدلاً لا يتجاوز بمجمله مظاهر الأزمات الوجودية وحالات الإسقاط الذهاني المعتمد على تبرير الحق في الحياة لا الحياة نفسها وصناعة معادلاتها وترجمة استحقاقاتها ووعي مترتباتها وتجلي الخصب والإبداع في كنفها؟

أتأمل وأنا آسٍ والقلب يتفصد دماً إلى ثنايا المشهد العربي والإسلامي ولا أعثر على تعبير دقيق يستوعب أعراض الصدع ويحيط بجوانب الملهاة.

ما الذي حدث بالضبط.. أي كارثة شكلها الوعي الزائف على هوية المجتمع العربي المسلم وكيف ذوبت ثوابت الأمة كما تذوب كومة ملح بللها الرذاذ!

كيف صيرنا الدهر زبداً راغياً يعكس ضحالة المناهج التربوية وخواء التيارات السياسية وتقزم دور المرجعيات الدينية واضمحلال مكانة بعض نظم الحكم العربية والإسلامية؟ غابت رسالة الحياة وفلسفتها وصعدت على تربتهما المتحجرة رسالتا خطف الحياة لصالح الثراء المراهق وكراهيتها على نمط تفكير جماعات الحزام الناسف.

ومن خصائص الثراء المراهق تضخم الذات السياسية تحت وهم التغول وتفاقم نزعات السيطرة والاستحواذ، وغالباً ما كانت هذه الخصائص سبباً في تسميم العلاقات العربية العربية وإلحاق الضرر بمناخات العيش المشترك وقيم التعايش البناء اللذين تحتاجهما مجتمعاتنا لضمان رغدها في الحياة، وتحريرها من قبضة الاستلاب الخارجي وهيمنة الرأسمالية الطفيلية التي نشأت في ظل الفساد السياسي والقيمي وتنامي مصادر الدخل القومي في متناول الثراء المراهق.

هذا اللون من الثراء والثروات لم يقدم غير الشيء اليسير من أجل الحياة، لكنه حشد مختلف الأسباب والإمكانات الباذخة في سبيل بناء منظومات وخلايا الفكر الظلامي المعادي لملكات الإبداع والخلق، المستخف بحرمة الأرواح المتطاول على مقدرات العقل وسلطان الضمير..

في سنوات خلت اتجه بعض المهتمين بالتراث السياسي والثقافي والاجتماعي العربي والإسلامي إلى دراسة انعكاس القيم المتوارثة على الأجيال المعاصرة، ومن بين ما تم الوقوف عليه من قراءات تحليلية نقدية ما يمعن في جدليات السياق التاريخي للظواهر السلبية المعيقة تطور مجتمعاتنا في راهنها المعاش، ويرى –هذا البعض– أن معظم المعضلات التي تعترض طريق التطور امتداد لمخزون متأصل تتولى النزاعات المذهبية تدويره من حقبة إلى أخرى، وعند هؤلاء فإن مرد ذلك يعود إلى سببين جوهريين: الأول ضعف قوى الحداثة وعجزها عن استيعاب مفاهيم الثورتين الصناعية والتكنولوجية وتقاعسها عن إطلاق مشروع تنويري لا يثير حفيظة الحاكم أو يستفز أجهزته، وإنما يجعلهما ضمن استهدافاته الموضوعية البناءة.. والثاني: الانشداد للإرث التاريخي واجتراره لدواع عديدة تغذي عوامل الانقسام بين أبناء المجتمع الواحد وتمنح السياسة –على الطريقة العربية والإسلامية– ذخيرتهما المطلوبة من البؤر والأزمات الداخلية التي يستخدمها الحاكم لتبرير عجزه ويلجأ إليها خصومه في سبيل الوصول إلى السلطة.

لست أدري إن كان هؤلاء النقاد ما زالوا عند آرائهم السابقة أم أن ما شهدته أوطاننا من انكسارات يضع موروثات الماضي في عداد الأفضليات التي تتعذر مقارنتها بنكبات الحاضر وكبواته؟

وما أزرى وقائع الحياة حين لا تنقطع تجلياتها المطيرة ويتعذر علينا استثمار متاحاتها مثل باقي شعوب الأرض، أو يوم لا تسعنا فيها آفاق مستقبلية تمنح الأجيال القادمة ما يستحق الرواية أو يرقى إلى مصاف النقد التاريخي.