الخليجيون أدرى بشعابهم وقادرون على إدارة تبايناتهم ولا تلزمهم معونة خارجية للقيام بمسؤولياتهم الذاتية تجاه قضايا شعوبهم وتحديات دولهم.

وسواء حققت تجربة العمل الجماعي الخليجي أهدافها كاملة كما نتمنى، أم شابتها أوجه قصور واعترضتها عوامل تعثر، فسنظل نعدها إنجازا حيويا على طريق مقاومة المشاريع الاستعمارية المشبوهة، ويظل الحكم التاريخي في حقها مناط تقويم موضوعي يرصد أطوار تبلوها على جبهات متعددة اقتصادية واجتماعية وثقافية وأمنية، كما على صعيد الموقف السياسي من الأوضاع المضطربة في بلادنا العربية، وما يعتورها من تحديات وجودية تعمل على استدامة التخلف، وتبذل وسعها على توسيع الفجوة بين عالم متقدم يمتلك أسباب التفوق، وعوالم استهلاكية تشتغل على جدليات السياسة، وتتبارى على إحياء القيم الضحلة ما قبل الدولة، وهي بذا تفترض لنفسها دورا حضاريا "سفسطائيا" يتأسس دون سياقات عصرية.

ومنذ الإعلان رسميا عن قيام مجلس التعاون الخليجي، جرت سيول جارفة تحت قشرة التاريخ، وانثالت أزمات كبرى على سديم الواقع لتتجه الأنظار نحو مؤسسات العمل الجماعي العربي العتيدة، وفي مقدمها جامعة الدول العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، والتجمعات الأفريقية المماثلة، وبحكم تجربتها المتواضعة في تحقيق أهدافها المعلنة، هربت مجتمعاتنا من اليأس إلى التماس الأعذار، وقائمتها تطول غرار إلقاء اللائمة على النزعة الاستعلائية المتضخمة لبعض القادة، وقصور النصوص المرجعية، وغياب الإصلاحات الهيكلية، لكن هذه الأعذار مجتمعة أو فرادى لم تكن ملحوظة في تجربة مجلس التعاون، إذ لولا التموضع الجغرافي وهواجس الالحاق المحتمية بالسيادة لولا هذا ما وجد عائق جوهري يصد متخذي القرار عن الانتقال من مرحلة العمل المشترك إلى الاندماج المباشر في كنف الدولة العصرية، التي لا تهدر مكانة عزيز قوم، ولا تضيّع حقوق مستضعف، وما من شاهد نستحضره أكثر رقيا من الإمارات العربية ومثالها الحضاري الذي عكس قوة الوحدة في التعدد وديناميكية التعدد في الوحدة..

أعود من حيث بدأت..

الخليجيون ادرى بشعابهم.. لكن متى ألقت تلك الدراية سحبا غامقة على شعوب عربية ترى في الخليج عمقها الحيوي الاستراتيجي، وتنظر لأشقائها قادة دول مجلس التعاون بوصفهم عضدها في الشدة وسندها المدخر عند الحاجة للمؤازرة بموقف موحد إزاء مخاطر جدية تهددها، فإذا تراجع العشم، فإن على الشعاب الواقعة تحت تأثير تلك السحب الخروج من صمتها، والمشاركة في تدارك النتائج السلبية ذات الضرر المزدوج على تماسك الجبهة الداخلية الخليجية من جانب ومكانة مجلس التعاون ودوره الإقليمي والدولي من جانب آخر.

ثمة هوامش معقولة تثري أداء وسياسات دول المجلس وتفرضها خصوصيات ومصالح كل دولة على حدة. وثمة تكامل بين حكومات المنظومة الخليجية، فما يتعذر على إحداها القيام به تنهض به جارتها وهو ما تتعين مباركته والحث عليه. لكن مجاوزة ذلك إلى التضاد لمجرد المكابرة والعناد يحيل العناوين الجاذبة إلى غطاء عازل يحول وسبل البحث عن إصلاحات جادة، وتوافقات موضوعية تؤمن مسيرة العمل الجماعي من الاهتزاز والتشوش.

نحن نتساءل: أي منطق عاقل يسمح أو يبرر للمنظومة الخليجية النظر إلى الأمن القومي لجمهورية مصر من زاويتين متعارضتين؟

عندما تضعنا التحديات الكبرى على مفترق طرق بين الموقف التاريخي الوجودي المنحاز لمصير أمة في مهب الريح، وبين موازين القوة ومعادلات النفوذ، لا شك نختار التاريخ على مجمل الحسابات السياسية الآنية، وننحاز للدولة المصرية حتى وان تعلق الأمر بالتزاماتنا السياسية التي نستشعر حرج الإخلال بها. وحين يتعلق الأمر باستقرار ووحدة ومستقبل اليمن، ويضيق هامش المناورة والعناد بحكم تفاقم المخاطر المحدقة بهذا البلد، فإن العزف المنفرد على أي من أوتار الصراع داخل اليمن لا ينال من المكانة الاعتبارية لمجلس التعاون فحسب، ولكنه يضع المنظومة الخليجية في حالة انكشاف جارح!

أجل.. الخليجيون أدرى بشعابهم.. أنجزت العملة الموحدة أم أرجئت! أشيد مكسب الدفاع المشترك أم تعذر تلك شؤونهم، وتغمرنا البهجة كلما تحقق مكسب، وأميط اللثام عن منجز، لكنا نشعر بالمرارة والانقباض حيال سياسات ومواقف تحسب على هذه الدولة الخليجية أو تلك، وحين نستقرئ مرجيعتها في تاريخ الهوية العربية، لا نجد الخليج خليجا لذاته وهويته القومية ولا نعثر عليه خليجا مؤثرا على توجهات العالم الإسلامي أو مسموعا على المستوى الدولي.

لدينا ما يستدعي لفت الأنظار وسط آمال عريضة تعلق على مراس وحنكة قادة دول المجلس، وفي مقدمهم خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، لمعالجة التعقيدات السياسية والنفسية التي تعتور التجربة أو تحد من تطور أداءاتها، وكبح الانفعالات الأحادية ومناشط العزف المنفرد على حساب شعابنا المنهكة. ذاك أن أوضاع المنطقة العربية لا تحتمل تأجيل مهمة كهذه، فما يكون اليوم ممكنا على معابر المنظمات العربية المشتركة، ومتيسرا بلوغه على جسور العلاقات الأخوية بين متخذي القرار في بلداننا، يصبح غدا خارج نطاق التحكم خليجيا وخارج إمكانات السيطرة عربيا، وسيغدو الجميع في مثل هذه الحالة عازفا منفردا لنوتات غير خليجية ولا عربية أو إسلامية.

ومجددا، فإن نقد التجربة لا يقلل من أهمية نجاحاتها المحرزة خلال الحقبة الماضية، بما واكبها من جهد خلاق لأمانة مجلس التعاون وكوادرها القيادية الكُفْأة، إذ لولا الجهد المبذول في خدمة الأهداف العليا لدول المجلس ومحاولات صهرها في أدبيات المجلس ووثائقه الرئيسة ـ لولا هذا ـ لكانت مناخات الانقسام على الساحتين العربية والإسلامية قد نقلت عدواها إلى مجلس التعاون، وأفسدت ممكناته الراهنة والمستقبلية.

لعلي أزحت غلالة التهيّب قليلا، لكني لم أقل الحقيقة كاملة كما أعاين تمثلاتها في أوضاع بلدي اليمن.