مكتئب وحزين.. في الحلق غصة وفي الحدقات غبار كثيف وأكاد أشهق من المرارة والأسى..

لكني برغم ذلك أضحك لا إرادياً كما لو أن عوالم الدنيا أودعت كل عتاهها على قلب حزين يقاوم البكاء بالجنون.

تتكسر الأحلام الجذلى على جدران المستنقعات وتأخذ الأوبئة مكانها المتقدم بدلاً عن الأمل الواهم بعافية محتملة.

ماذا علينا عمله كي نبتسم من أجل الفرح ونبكي بغريزة الفقد الصادق. أكتب عن صنعاء مليحة البردوني ومتيمة المقالح ومدينة عبدالعزيز عبدالولي..؟ أم عنها تحت قبضة الحصار.. أم عن قمرياتها المزكرشة التي خرمتها شظايا القذائف وشوارعها الواقعة تحت عصف الميليشيات المسلحة.

(ماذا أحدث عن صنعاء يا أبتي

مليحة عاشقاها السل والجرب)

هكذا قال زرادشت (اليمن) وضريرها الرائي الفقيد عبدالله البردوني في نبوءة مبكرة سبقت تداور العاصمة اليمنية بين الإخوان المسلمين وجماعة أنصار الله الحوثيين وكلاهما يبني خياراته على أنقاض الدولة ويحدد معالم النظام الاجتماعي لسلطتي الخلافة أو الإمامة وفقاً لرؤيته الأيدلوجية والمذهبية المغلقتين.

أقول.. (هما أمران أحلاهما مرُّ)!

لم أستوعب ما حدث لصنعاء غداة صارت سلميتها مهينة ووحداتها العسكرية الضاربة ملفعة بالرايات البيضاء.. لست أقوى على عبارة (سقطت) ولا ينبغي بنا اعتبار الخيانات مؤهل نصر يستحق التدوين..

البطولة لا تسجل مآثرها بالطعن في خاصر الوطن.. والخيانة ليست العمل مع طرف في النهار والتواطؤ لصالح طرف في الليل فقط، لكنها أنماط متعددة بتعدد الدوافع والغايات وكذلك جاء اجتياح الحوثيين صنعاء في 21 سبتمبر الجاري مقطوراً على عربات ينتظمها هدف مشترك يرتكز على إسقاط ما تبقى للدولة الوطنية من مشروعية وما في يدها من مقدرات. لم أستوعب درس الاجتياح بعد لكني أحد اليمنيين الذين شاهدوا وشهدوا أربع عربات يقطرن الحوثي إلى عاصمة الدولة.

الإخوان المسلمون حين أفرغوا مشروع التغيير من مضامينه واستثمروا انتفاضة 11 فبراير 2011 في خدمة توجهاتهم السلبية، بما رافقها من إخلال بوظائف الدولة وإفساد للحياة السياسية وانزلاق فاضح في عقد العديد من الصفقات المشبوهة والرضوخ لإملاءات النفوذ القبلي و(أخونة) المؤسستين العسكرية والأمنية إلخ..

وفي السياق، فإن ما أطلق عليه جيش الثورة 2011 أي الطرف المنشق عن المؤسسة العسكرية وقتئذ (الفرقة أولى مدرع) وعلى رأسها الجنرال علي محسن الأحمر شغل مقود العربة الثانية بانحيازه شبه الكامل لأجندات الإخوان وتنصيب مكوناته العسكرية محمية مستقلة لا تنصاع لقرارات القائد الأعلى للقوات المسلحة وتضع نفسها فوق قواعد وضوابط الجيوش النظامية، الأمر الذي عكس نفسه على قادة الوحدات القتالية المشمولة بقرارات إعادة هيكلة القوات المسلحة بما سادها من شعور بالغبن جراء التزامها بتنفيذ ما يخصها من قرارات إعادة التموضع على مسرح العمليات الجديد وإلغاء هياكل وضمها بتقسيمات مستحدثة وعزل بعض القيادات أو إحالتها على وظائف مدنية ليبدو التزام تلك الوحدات بقواعد الضبط والربط العسكريين مدعاة ندم، إذ لا إجراءات صارمة جرى اتخاذها في حق التمردات غير المعلنة لحماة الثورة وعلى هذه الخلفية اعتملت عقيدة التحيّن وفورات التماثل اللتين تنتظران اللحظة المناسبة للإفصاح عن ذاتهما بالتمالئ مع اللاعب على رؤوس الثعابين وخبراته الطويلة في استثمار الأخطاء وتحديد مواقيت قطافها..

إن كان اللعب بالثعابين أو معها تعبير متقن عن نفسية شريرة فإن لدغة أفعى الكوبرا مميتة ولا ريب، وأخال الأمر كذلك حين قاد الرئيس السابق بعلاقاته المستمدة من موروث 33 عاماً في الحكم إلى جانب شبكة الولاءات الضيقة التي نسجها في مفاصل الدولة المدنية والعسكرية العربة الثالثة المعنية بتجسير الحركة الحوثيية وتمكينها من تطويق العاصمة ومن ثم دهمها بطريقة حملت معها بصمات وخبرة رئيس يحسن الإيقاع بكتلة عصافير لا عصفورين بحجر واحد.. نتفهم أسباب صالح وبواعثه السياسية والنفسية الكامنة خلف نقمته من توأميه محسن والإخوان خلال ثلاثة عقود من الحكم ولا نجادل في عدالة موقفه المتشدد من المتورطين في تدبير جريمة الغدر التي طالته وعدداً من أبرز قيادات الدولة تماماً كما لا يمكن تجاهل أسباب سخطه من الرئيس هادي الذي رفض تدخلات سلفه في إدارة شؤون الحكم أو القيام بدور الأراجوز الفكه خلف الواجهات الزجاجية الأنيقة، كل هذا نتفهمه في سياق الطباع البشرية وانفعالاتها الآنية، لكن ما لا يمكن تبريره الانتقال من تصفية الحسابات الثأرية مع أطراف في الصراع إلى الخصومة المباشرة مع الوطن..!

لا وقت ندخره لمداهنة الأخطاء ونقد الخطايا ومن الصدق مع النفس تحميل الرئيس التوافقي عبدربه منصور هادي مسؤولية العربة الرابعة وتعمل على غمر الحرائق بأكوام الرماد وحيناً بوسائل الإطفاء المعتادة، وحين ينفد مخزونها من الماء يتسرب وقود خزانها الخلفي فتشتعل نيران إضافية وتشح فرص بناء اليمن الجديد فيما تتصاعد عوامل الوهن المحدق بالدولة ويتواصل مسلسل الفتوحات الأصفهانية في اليمن.

لن نتحدث عن دور خليجي في اليمن ولا أحسبه غائباً عن ماراثون العربات الأمامية التي قطرت ميليشيات الحوثيين إلى العاصمة صنعاء.. وجرياً على العادة سينشغل الأشقاء مجدداً بنتائج الصراع لتبقى أسباب ضعف اليمن على حالها تنتج المزيد من المباغتات الصادمة وما نسميه اليوم خطراً حوثياً سوف يصبح على المدى القريب خطراً داعشياً..؟

فهل من رؤية استراتيجية سياسية واقتصادية وأمنية وتعليمية يتبناها الأشقاء في سبيل يمن جديد لا يعتاش على أجندات الصراع الخارجي ولا ينتج المخاطر أو يُطبّع على توطينها عوضاً عن التنمية الوطنية ومتطلبات بناء الدولة المؤسسية..

كثيرون يُحمّلون الرئيس هادي مسؤولية ما حدث والسهام تنوشه من كل حدب وصوب.. بدورنا لا نعفيه من التبعات لكنا ندرك حجم الصعوبات التي تعترض طريقه كرئيس توافقي وإزاء هذا يبتدرنا سؤال عارض.. متى سيصبح هادي رئيساً وقراراته نافذة والحكم له أو عليه ممكناً..؟ وللأشقاء.. ما زال الوقت مواتياً لقول: (رب ضارة نافعة)؟!