أحياناً، تكون للبدهية الاعتيادية حتميات قريبة من القوانين العلمية.. وكما تؤكد نظرية نيوتن الفيزيائية: (لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه) تذهب توقعات المتابعين مجريات الوضع على الساحة اليمنية لإثارة مخاوفها من النتائج العكسية المترتبة على اقتحام العاصمة صنعاء وتوغل حركة السلاح الحوثية في معظم الأحياء والشوارع الرئيسة وانتشار مليشياتهم على مداخل المؤسسات الحكومية، وبعض ممارساتهم المزعجة تجاه عدد من خصومهم السياسيين والعسكريين، الأمر الذي سيؤدي بالضرورة لردة فعل "داعشية" سبق أن لوح بها أحد أبرز قيادات (التجمع اليمني للإصلاح) في أثناء المواجهات العنيفة رمضان الماضي بين جماعتي: أنصار الله (الحوثيين) والإخوان المسلمين.

المتابعون اختلفوا في تحليل موقف الإخوان المذعن لسطوة السلاح والسذج منهم سرهم مكر الدهر فبادروا بالإعلان عن طي صفحة تنظيم أمضى قرابة 8 عقود تحت الأرض وفوقها، بينما عد الأمر في نظر البعض هزيمة اقتصرت نتائجها على الجناح العسكري للجماعة دون مكونها الأمني ذائع الخبرة والمراس. والأرجح بين الرأيين أن حالاً كالتي تكتنف المشهد اليمني لا تسمح بهزيمة مكتملة ولا نصر محقق لأي من محوري الصراع، ما يكفي لترقب جولات ثأرية بوسائط أخرى غير المواجهة المباشرة بين فريقين لكل منهما ساحته المحددة ومسرحه الواضح.

ولا غرو أن لتجربتي: "الإخوان"، و"الحوثيين"، امتداداتهما الخارجية؛ ولهذا تبدو الكثير من الآراء المتداولة حولهما جزءا من سياق افتراضي لنظائرهما في هذه الدولة أو تلك وغالباً ما جرى إلباسهما سحنة الإخوان في مصر أو إهاب حزب الله في لبنان، ولربما جاز هذا الربط على صعيد الموجهات الرئيسة والأهداف العليا، أما من حيث البيئة الحاضنة وظروف النشأة وتعبيراتها على أرض الواقع فإن أكثر صور التماثل حضوراً في وعينا السياسي أكثرها تغايراً في تجليات الواقع..

فلماذا في اليمن فقط ينقطع الأنموذج المقارن وينقطع صدى المحاكاة على نحو مختلف يحكي إعادة صهر المثال المتخيّل في تصوراتنا الذهبية حيث تغير القوالب أطرها لتغدو أقرب لنقائضها خارج اليمن منها على طبيعتها المقررة سلفاً..

"الإخوان" في اليمن يماثلون جماعة حزب الله اللبناني الذين يفضلون الدولة المفخخة بهم ويبحثون في مشروعيتها، عن غطاء لخيار القوة بما هي مضمون فلسفتهم الإحيائية للدين والمقاومة، ولا بأس لديهم من وجود هوامش تعددية نمطية تضفي على تلك المشروعية قدراً من مستلزمات التباهي بالآخر، بينما نرى في الحركة الحوثية أطوارا قريبة الشبه من جماعة الإخوان المصرية في علاقتها الضدية بنظام الحكم وصدامها المتواصل بسلطات الدولة وعدم قدرتها على استيعاب القيم الحداثية فضلاً عن خصوصية الحركة من حيث جنوحها شبه التام لتهيؤات الإرث العصبوي ويقينياته الجينية المنتقاة سماوياً، وذلك ما يعادل خصوصية الإخوان المسلمين في قطعياتهم النظرية عن أهل الحل والعقد من شيوخ الجماعة وعصبتها الحزبية باعتبارهم خاصة الصلاح في المجتمع.. ومع هذا تظل اليمن غير مصر وهي أيضاً غير لبنان، فليس لدى اليمن مؤسسة دفاعية تمنع جماعة السلاح الحوثية من انتهاك حرمة العاصمة صنعاء، ولا يقف الرئيس هادي على رأس دولة ضامنة كالتي تحمي دولة وشعب مصر، وليس للإخوان في اليمن قضية مبهرة يتشحون بها عند الحاجة لمشروعية مستقلة عن مشروعية الدولة، فهم مطوقون بمحيط عقائدي أصيل تبدأ نفحاته من مكة المكرمة مهبط الوحي وصولاً نحو الأزهر الشريف وعلاقتهم بالمقاومة الفلسطينية (حماس) معقودة على (الحصالات) أي الصناديق الصغيرة المبثوثة لجمع التبرعات باسم تحرير الأقصى.

والواقع أن الأوضاع السياسية والعسكرية لمسمى دولة "يمنية" تمنع من التكهن بطبيعة الفصل الثاني من فصول الصراع، خاصة أننا أمام سلطة افتراضية تخوض معركة إثبات الذات في تعاملها مع جيوب الرئيس السابق وتواجه حروباً متعددة على جبهات شتى، فمن أين لهذه السلطة أو الدولة أن تفي بمسؤولياتها في مواجهة عنتريات السلاح على حين تجد نفسها ضمن مأزق تاريخي ولحظة خذلان ثلاثية الأبعاد: خذلان شركاء التسوية لتمسكهم بحكومة مجمع على فشلها، وخذلان خليجي في تقديم بدائل تغني عن اتخاذ قرار الإصلاحات السعرية (الجرعة)، وخذلان أممي أدى إلى تتويه المبادرة الخليجية وتعويم مخرجات الحوار الوطني وتمديد أسباب التأزم والتأزيم، ولئن كانت المبادرة الخليجية قد قالت لنا كيف ننتظر أربع سنوات ريثما تتهيأ فرص اجتياح العاصمة صنعاء فإن على الأشقاء أن يتمعنوا كثيراً وطويلاً أمام رؤيتهم التقليدية بما يؤدي إلى قيام دولة يمنية قادرة على الوفاء بالتزامات الدولة التي لا تنتج القلق ولا تعتاش على الأزمات أو ترتهن لمرجحة الخلافة المزعومة ومملكة الإمام الغائب..!