يوم السبت الفائت، خرجت أنا وأخي عبدالله الوابلي في وفد من مدينة بريدة لمدينة الأحساء؛ لتأدية واجب العزاء لأهلنا وذوينا في قرية الدالوة، على مصابهم ومصابنا ومصاب كل الوطن في شهدائنا من أبنائهم الذين جزروا جرماً وعدواناً بيد الكره والغدر والإرهاب. على طول امتداد الطريق، من بريدة للأحساء، وأنا أنظر سارحاً مغموماً للصحراء القاحلة الممتدة أمامنا وعلى أجنابنا وأنا أقول بيني وبين نفسي أيستكثر هؤلاء القتلة ودعاة الكره والحقد ونشر الفتن والعداوة والبغضاء علينا العيش بأمان وسلام حتى وسط هذه الصحراء القاحلة؟

وكنت متهيبا من مقابلة أهلنا وذوي الضحايا في الدالوة، من أن أنظر إليهم وهم حزينون، مكسورون خائفون، مرتابون بكل من حولهم خوفاً من أن يكر عليهم أعداء الله والإنسانية، ويفجروا بعزائهم كعادتهم الإجرامية في تفجير مجالس ومواكب العزاء دون أدنى حس، ليس إنسانيا فقط، ولكن حتى حيواني. ولكن كان عزائي الوحيد هو أننا خرجنا من بريدة التي شهدت أرضها الباسلة أول اقتصاص من الخونة القتلة؛ كذلك شهدت أول تضحية من رجال أمننا البواسل؛ الذين انضموا بكل شرف واعتزاز، لقافلة شهداء الوطن؛ ومن أجل الوطن وكل ضحايا الإرهاب في الوطن.

عندما انتصف بنا الطريق بين الرياض والأحساء، ونظري يجول يسبر أغوار صحرائنا الشاسعة وقد نال مني التعب والكلل والملل مناله، وأنا راكب في سيارة فارهة تحوي كل وسائل الراحة والسلامة، تذكرت المغفور له الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - رحمه الله - وجيش التضحية والتوحيد الذي كان يقوده، وهو يتحرك عبر هذه الصحراء القاحلة، من الصمان للدهناء ولأطراف الربع الخالي ولم يعتريهم لا تعب ولا كلل ولا ملل، وهم يمتطون دواب وبعضهم سيراً على الأقدام يخطون بعرقهم ودمهم وجوعهم وعطشهم، وفوق كل هذا وذاك أرواحهم الذكية؛ ملحمة النصر والتوحيد التي حولت هذه الصحاري القاحلة الموحشة إلى واحات أمن وسلام ننعم بها، وسينعم بها أحفادنا بإذن الله من بعدنا.

هنا أدركت عظم المسؤولية التي تقع على كاهلنا كأبناء وأحفاد أوفياء لعبدالعزيز وجيشه للحفاظ على هذا الوطن القارة، وتسليمه لأبنائنا وأحفادنا كما سلمه لنا وبكل أمانة ومسؤولية أباؤنا وأجدادنا. إلى هنا، وتبخر الكلل والملل والتعب مني، واعتدلت في جلستي مرتبكا وسرحت في تفكيري وتساءلت بيني وبين نفسي: هل من الممكن أن يأتي طغمة من القتلة والأوباش والطائفيين الحاقدين ويختطفوا منا هذا الوطن الأمانة؟ ويتسببوا في تقسيمه إلى مناطق وطوائف وقبائل متنازعة ومتحاربة كما كان. هنا هززت رأسي وكأني أصحو من كابوس جثم على صدري كالطود، ورددت بيني وبين نفسي، لا لا.. لن نسمح بذلك، ولو على جثثنا. وواصلنا السير وآثار الكابوس ما زالت تشد على صدري وتخنق أنفاسي.

وصلنا إلى الأحساء، وتم استقبالنا من قبل أصدقاء كرام من أهل "القارة" وقاموا بواجب الضيافة لنا في منزل جميل داخل مزرعة أجمل. وقد أحسسنا من استقبالهم الحميمي والعفوي الجميل لنا وكأننا أصحاب العزاء وهم من أتى ليعزينا. وهذا ليس بمستغرب على أهل الكرم والطيبة، أهل الأحساء؛ ولكن في مثل هذا الموقف قلت من أراد أن يعرف هل هو طيب أم لا فليقارن نفسه بأهل الأحساء؛ أو على الأقل ليتشبه بهم إن لم يستطع أن يصل لطيبتهم.

ومن "القارة" تم أخذنا لقرية الدالوة المجاورة لها لنؤدي واجب العزاء. الدالوة قرية جميلة وادعة آمنة، يحيط بها النخيل والأشجار من كل جانب، عندما اقتربنا من القرية بمسافة كيلومتر واحد، شاهدنا السيارات واقفة على جانبي الطريق والناس تتحرك فرادى ومجموعات متجهة أو قادمة منها رجالاً ونساء وأطفالا. وكانت حركة السيارات والناس، تنظم من قبل عشرات الشباب المتطوعين، الذين يرتدون علامات خاصة بذلك.

عندما علم الشباب المنظم للحركة، أننا وفد من مدينة بريدة، تحركوا أمام سياراتنا داخل الزحام؛ وإذا بمواقف خاصة للوفود الذين قدموا من بعيد، يقع على مسافة حوالي 200 متر من سرادق العزاء. كان هنالك سرادق للمعزين، على مسافة 500 متر، يتحركون بكل نظام وسكينة ووقار، لموقع العزاء. كان الزحام في كل مكان، ولكن تنظيم الشباب وهدوء وسكينة المعزين، جعل الحركة بطيئة ولكن بالوقت نفسه متحركة.

تحركنا وأمامنا شباب من المنظمين لسرادق العزاء ودخلنا، وإذا به سرادق كبير ومهيب، مفروش بأفضل الزل والكراسي الوثيرة، ورائحة البخور هي الغالبة فيه رغم ازدحام المعزين. سرادق العزاء وتكاليف الضيافة فيه، تبرع من رجال أعمال ووجهاء الأحساء، سنتهم وشيعتهم؛ كما أن وجهاء الأحساء سنتهم وشيعتهم مصطفون مع أهالي الشهداء يستقبلون العزاء، لأنه مصاب أليم وقع على أهالي الأحساء كلهم وعكر صفو سلمهم.

أهالي الشهداء كبارا وصغاراً كانوا وقوفا يستقبلون المعزين؛ ولا تشعر أنهم مصابون بالإرهاق أو التعب وكأنهم في عرس لا مأتم، حيث خفف الحضور الكثيف ومن جميع الفئات والشخصيات والمناطق والقبائل، مصابهم، مما أشعرهم أنهم ليسوا وحدهم في مصابهم وأنه مصاب للوطن كل الوطن. تم الإعلان في مايكرفون السرادق عن حضورنا، وفد بريدة، وكذلك وفد جيزان ووفد مكة ووفد قبيلة قحطان وسبيع وبني خالد وغيرهم من وفود المناطق والقبائل. وكذلك تم الإعلان عن وصول وفود رسمية من وزراء وبرلمانيين من الكويت والبحرين والإمارات العربية المتحدة، هذا ما أتذكر أنني سمعته. وقد حظوت بشرف الوقوف مع أهالي الشهداء، وتلقي العزاء معهم، وهذا شرف عظيم منحه لي - مشكورين - منظمو العزاء وأعيان "الدالوة".

وبعد أن أدينا واجب العزاء أخذنا الشباب المنظم لمقر حسينية المصطفى التي سفك فيها دم شهداء الوطن. وشاهدنا آثار الجرم، حيث الرصاص قد اخترق الجدران والأبواب، وما زالت بعض دماء الشهداء الذكية موجودة تعطر عتبة الحسينية برائحتها الذكية. في جنازة شهداء "الدالوة" تم تلحيف جثامين الشهداء براية لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتم رفع صور شهيدي الواجب: النقيب العنزي والعريف الرشيد، وترديد "إخوان سنة وشيعة.. هذا وطنا ما نبيعه".

ما شهدته في "الدالوة" لم يكن عزاء بل عرسا للوطن، كل الوطن، حيث كان كله موجودا وبثبات هناك. فموتوا غيظاً أيها الطائفيون، الإرهابيون، فقد أثبتت "الدالوة" أن وحدتنا جبل، وما أنتم إلا تيوس، تكسرت قرونها وهي تحاول أن تناطحه.

أمس الخميس وصل إلى بريدة 36 من أهالي وأعيان الدالوة والأحساء، وحلوا ضيوفاً على إمارة القصيم ليقوموا بواجب العزاء لعائلة الشهيد النقيب محمد حمد الجعفري العنزي، في عنيزة، ثم سينتقلون لحائل، ليعزوا أهل الشهيد العريف تركي بن رشيد الرشيد.

ونحن في طريق عودتنا من "الدالوة" حمدت الله ودعوت لعبدالعزيز بن عبدالرحمن وجيش التوحيد، الذين لم يوحدوا رملاً وإنما وحدوا وطنا، تمتد به سلسلة جبال شامخة متلاحمة من كل مكوناته وفئاته وطوائفه. فجزاهم الله عنا جنات الفردوس الأعلى.