بعد أن احتجت إسرائيل وهددت لشهور، في محاولة لإيقاف تحقيق الأمم المتحدة في انتهاكات قواتها للقانون الدولي في حرب غزة عام 2014، يواجه رئيس الوزراء الإسرائيلي الآن تحقيقاً أخطر حول هجماته على الفلسطينيين خلال العقدين الماضيين. ففي 10 نوفمبر الحالي، أعلن الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، عن "إنشاء لجنة داخلية مستقلة" بمقر الأمم المتحدة للتحقيق في "حوادث معينة" وقعت في قطاع غزة ما بين 8 يوليو و26 أغسطس 2014". ووصف بان كي مون لجنة التحقيق بأنها ليست فقط لجمع معلومات الشهود، بل "ستستعرض وتحقق في عدد من الحوادث التي أدت إلى وفاة أو إصابات فلسطينيين، فضلاً عن الأضرار التي لحقت بمنشآت الأمم المتحدة".

وفي الواقع، لم تنبثق هذه اللجنة من جانب وكالة الأمم المتحدة للقيام بالتحقيق، وإنما من جهات عليا، والحكومة الإسرائيلية تعلم الفرق، فهل ستستجيب؟

تم اتخاذ قرار بان كي مون في أقل من أسبوع منذ أن أعطى المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة للإغاثة (الأونروا)، بيير كراهينبول، تقريراً للجنة الجمعية العامة للأمم المتحدة لمكافحة الاستعمار، ويشمل التقرير تفاصيل مريعة عن التدمير الإسرائيلي في غزة:

• مقتل أكثر من 1500 من المدنيين في قطاع غزة، بما في ذلك 538 طفلاً و306 نساء و11 من موظفي الأونروا.

• تيتم 1500 طفل، وجُرح 11 ألف شخص، من بينهم 1000 طفل سيعيشون بقية حياتهم بإعاقات دائمة.

• صدمة واسعة النطاق للمدنيين والأطفال، الذين دمرت منازلهم، حيث أصبح 110 آلاف شخص بلا مأوى، مع فقدان سبل العيش، وتدمير أكثر من 500 شركة، وتعطيل محطة توليد الكهرباء في غزة، وقتل 40% من الماشية وتحطيم الأراضي الزراعية الخصبة في غزة.

• فرار نحو ثلث سكان غزة من منازلهم لبعض الوقت خلال الهجمات الإسرائيلية. ولقد وفرت الأونروا المأوى لنحو 300 ألف نازح في 90 مدرسة من مدارسها.

• تعرضت الأونروا لقصف 7 مدارس من مدارسها، أدى إلى مقتل أكثر من 42 وإصابة نحو 200 شخص بإصابات متعددة.

لقد كان المفوض كراهنبول متحمساً في تقريره، حيث قال "إننا ندين بلا تحفظ تلك الهجمات على منشآت الأمم المتحدة التي تُشكل انتهاكات للقانون الدولي من قِبل إسرائيل، وطالبنا بإجراء تحقيقات ومساءلات حول تلك الانتهاكات، وهو مطلب أكرره هنا اليوم". وروى كراهنبول كيف كان مسؤولو الأونروا يبلغون عن كل حالة من الحالات التي يتم فيها اكتشاف أسلحة في مرافق الأونروا، وأفاد مسؤولون آخرون أنهم أبلغوا رسمياًّ إسرائيل سبع مرات بأن مواقع الأونروا هي ملاذات آمنة للأطفال والأسر.

لو كان هناك أي بلد أو قوة أخرى على وجه الأرض ارتكبت هذه الأعمال لطالبت وسائل الإعلام الدولية بمعاقبة المعتدين ورد الحقوق والعقوبات والملاحقات الجنائية للجناة. لكن الجيش الإسرائيلي "لا يزال بعيداً عن العقاب على ارتكابه جرائم القتل".

إن شدة استياء وإحباط وغضب الفلسطينيين هو بداية لتفجير "برميل بارود" على الإسرائيليين في القدس وفي مناطق الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية، وحتى داخل حدود عام 1967 نفسها. لقد أدت الهجمات بتفجير سيارات أو عربات يقودها فلسطينيون إلى قتل إسرائيليين في مواقع وسائل النقل العام المزدحمة. وأصبحت الهجمات بالسكاكين وسيلة أخرى للانتقام، حيث وصفتها وسائل الإعلام بأنها هجمات عشوائية ضد المستوطنين اليهود أو المواطنين الإسرائيليين. ولكن، استهداف المستوطنين في المستوطنات اليهودية الذين يمارسون العنصرية المتطرفة، في الخليل مثلاً، قد يشير إلى أن تلك الهجمات قد لا تكون عشوائية تماماً. ففي القدس، كانت هناك محاولة لاغتيال الحاخام رابي يهودا جليك، المتطرف الذي يريد هدم المسجد الأقصى واستبداله بـ"الهيكل الثالث" لليهود. ووفقاً لصحيفة الواشنطن بوست في 12 نوفمبر الحالي، فإن جليك "مدافع شرس عن بناء الهيكل الثالث في موقع المسجد الأقصى، حيث كان يوجد اثنان من المعابد اليهودية قبل آلاف السنين". ولكن معظم التقارير الإعلامية السابقة كذبت ادعاء جليك بأنه يريد فقط مشاركة اليهود والمسلمين في الأماكن المقدسة.

يجب إدانة الإرهاب ضد المدنيين بجميع أشكاله، لكن لا ينبغي أن يكون صدمة لأحد بأن الغضب يغلي أكثر من العنف.

في الولايات المتحدة في الستينات، انفجر الكفاح من أجل الحقوق المتساوية للأميركيين الأفارقة إلى أعمال عنف في مجتمعات السود. فلقد انفجرت أعمال الشغب بحي واتس بمدينة لوس أنجلوس عام 1965، وفي شارع "ديفيشن" في شيكاجو عام 1966، وفي مدينة نيوارك بولاية نيو جيرسي عام 1967، مما تسبب في أضرار لحقت بممتلكات تُقدر خسارتها بعشرات ملايين الدولارات. ولقد صارت تلك المدن الأميركية الكبرى مشتعلة بفعل مثيري الشغب الذين نهبوا المرافق التجارية وأحرقوا المباني. وبدت تلك المناطق شبيهة بمناطق الحرب. وفي 28 يوليو1967، أنشأ الرئيس ليندون جونسون آنذاك لجنة لدراسة الاضطرابات المدنية في أميركا. وأصدرت اللجنة التي كانت معروفة باسم "لجنة كيرنر" تقريرها في فبراير 1968، أي بعد حوالي 7 أشهر من التحقيق. وحذر التقرير بأن "امتنا تتجه نحو مجتمعيْن، واحد أسود وآخر أبيض، منفصلين بصورة غير متكافئة". وتحدث التقرير عن التفرقة العنصرية البيضاء، وعن الإذلال الذي لا يطاق وعن التمييز ضد الأميركيين السود بشكل عام. ودعا الحكومة إلى توفير برامج لخدمات السكان الفقراء الذين يعيشون في "جيتوهات" بالمدن الأميركية الكبرى، وطالب بإنهاء التفرقة العنصرية وبتوفير برامج التدريب والوظائف وفرص العمل.

وصف زعيم الحقوق المدنية، مارتن لوثر كينج، تقرير لجنة كيرنر، بأنه "تحذير طبيب من الاقتراب من الموت، مع وصفة طبية للحياة". لكن وبشكل مأساوي، اغتيل كينج على يد قناص عنصري أبيض، في أبريل 1968، وكان حُلم كينج أن يقود الولايات المتحدة إلى إجراء الإصلاحات اللازمة إلى العدالة الاجتماعية. واندلعت مرة أخرى أعمال الشغب في جميع أنحاء أميركا، ووقتها فقد الشباب الأميركي الأمل بأن العدالة لا يمكن أن تتحقق.

إن الفصل العنصري العنيف الذي تمارسه إسرائيل واحتلالها للفلسطينيين، هو بالضبط ذلك النوع الذي حذَّر منه كينج الولايات المتحدة. فالعنصرية الصهيونية هي التي ستجعل إسرائيل تدمِّر نفسها بنفسها. وإن العدالة للفلسطينيين، بمنحهم دولة ذات سيادة كاملة على قدم المساواة الإنسانية والحقوق المدنية والسياسية، والسلامة من الهجمات والاعتقالات خارج نطاق القضاء، والفرص الاقتصادية، والحق في العودة إلى وطنهم، هي في مجملها "الوصفة الطبية" لحياة الفلسطينيين، وبالتالي يمكن بها وضع نهاية للإرهاب.