يقول إيلوار "رميت بقنديلي في البستان ليبصر جليا ثم هجعت"، يبدو أن الشاعرة هدى الدغفق حملت ذلك القنديل المستدعى ومتعلقاته، ووسعت مدلول الضوء داخلها، ليتحول إلى وجود رمزي متخيل، مقتنصة المشهد الواسع، لتكثفه وتختزله في شذرات ودفقات عبر خطابها ومحصولها الشعري، دون الوقوع في حالة الإيهام المغلق والإيحاء المغاير، فهي ملتزمة بإنسانيتها الساطعة وكأنها مسؤولة عن "مقتل أي عصفور، أو سحق أي وردة، وردم أي نبع" كما يقول الشاعر الكردي "شيركو بيكه"، تمرق كلماتها في جسد القصيدة لتشعل خيمة الضوء المائج في حناياها، وحقيبة الروح المنذورة للوظيفة الجمالية، وإعادة إنتاج اللحظة الشعرية المبتغاة، فهسهسات اللغة وعرجونها المتبرعم كصبح مطر، تدهن رحيق قصائدها بحرير الألق المغمور بهديل الضوء "هواجس يتيمة، منبه يدق كل لحظة وهاتف، وليل غرفة يشد شعره ضوء، يكاد لا يكون، هواجس يتيمة والأهل ميتون"، إن كونية رؤيتها الاستحواذية من خلال "الضوء" بصيغته شديدة القصدية، وبثها لتلك الدلالة، واحتشادها في الفضاء الشعري، يشي بإحساسها المتعالي بفداحة فقدان وانطفاء ذلك المعطى الروحي والإنساني، بما يمثله من نقاء وصفاء ورايات بيضاء، ومداميك تصد غواشي الموبقات، وسيول الليل المهلكة، ورشقات الجروح النازفة "تعدو طوابير الصباح، ينطفئ الفناء بالبياض، في الفراغ، يستفحل السواد في مخيلتي، يضيئني لون الوجع"، الدغفق تكره الظلمة الكالحة والمرعبة، وحمأ الموجودات الطافحة بالرهبة والوحشة الدامية، والأعين المثقوبة بالعتمة، "ماتتا قليلا عيناي، غضب الليل عليهما، هاجت روحه بياضا، كفنها الصباح، رقصت الشمس في صدري، دفوفها رئتاي"، تكره الرقعة الضيقة المسورة بطقوس الحداد، فنسيج شعريتها مضمخ بناصع البياض، والإيحاءات المشعة بالمسرات كملاذ حلمي مفترض، وتموضع استجابي يؤثث للانعتاق الضاغط على النفس كمرثية الليل وتعاويذه "يا هذا الضوء الغاضب، لا تهلك جمري، يا هذا الضوء، إن أنت تريد النوم فنم"، نلمح التراكم الضوئي في غالبية المواطن الشعرية عند هدى الدغفق، بمؤنة مزنرة باليقين، بوصفه حقلاً مفتوحاً للفطرة البشرية، ونزعة مفعمة بوفرة النبل الإنساني، ومضاهاة باذخة للعودة إلى زمن فروض الروح، وطيب النوايا، ولغة القلب السخي، وهدايا الطفولة، ومصابيح الضوء الرؤوم "نشتهي ضوءاً يرينا أصلنا، أو فصلنا المجهول"، وفي مكمن آخر تقول: "عيناي تشرقان في خيمة صفنا مصباحهما قصيدتي"، إن اندفاعها الدؤوب لكسر جدار الظلمة المتجهمة، وتلمس منطقة الضوء المكنون بكل إحالاته "الصباح، النهار، أحجار الشمس، النور، الرغيف الأبيض، مصباح القصيدة، شروق الفجر، الظهيرة، البدر، الكواكب، النجوم"، كل هذه الانثيالات والمسارب والتكرارات والنفحات تفصح عن تجليات ومخزونات، تنتصر للإنسانية الأسمى، وتأخذنا من "عمق البساطة إلى بساطة العمق".