ثمانون ألف بردية عربية موجودة في مكتبة فيينا الوطنية حُقِّقَ منها ألف فقط، وسمعنا أن هناك شركة أميركية ستشرع في تحقيق 15 ألف منها.. كل ذلك يجري أمام مرأى ومسمع العرب.. والسؤال الكبير المطروح هو: كيف انتقل هذا العدد الكبير من هذا التراث الثمين من البلاد العربية؟ وكيف يُحقق من قبل غير أهله؟ ألا نخجل؟.. عندما يتم تحقيق ذلك التراث لا نقول فيما بعد لماذا تشوهت صورتنا لأن الآخر هو من تعب وهو من اجتهد وهو من سبق لإعطاء الرؤية والنتائج.. ثمانون ألف بردية تحمل تراثنا وتاريخنا موجودة عند الآخرين ويحققها الآخرون.. أوراق البردي هي نباتات مائية تنمو في المستنقعات ذات المياه العذبة، أو الضاربة إلى الملوحة، كما تنمو في الأراضي الزراعية وعلى جوانب الترع والمصارف والبرك والأنهار. وتعتبر منطقة الفيوم ومدينة الفسطاط أغنى المناطق بأوراق البردي، والتي عثر عليها في أواخر القرن التاسع عشر للميلاد، واتخذت أشكال لفائف قصيرة أو طويلة، حسب المواضيع والمواد التي كتبت عليها، وحفظت في جرار فخارية أو صناديق خشبية للمحافظة عليها من العطب والتكسر والتقصف.

لقد ظهرت أوراق البردي كأداة للكتابة ووسيلة للتدوين قبل الميلاد بـ 15 قرناً، واستمرت إلى جانب مواد أخرى كالرق والجلد والخزف وعظام الحيوانات والخشب والزجاج.

إن أهم مصادر أوراق البردي هي وادي النيل، وكان المصريون أول من استخدمها في الكتابة ومنهم انتقلت إلى العراق وبلاد الشام والأقطار المجاورة.

تكمن أهمية أوراق البردي في كونها مصدراً لدراسة الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي ولمدة ثلاثة قرون من العصر الإسلامي الأول، أي عصر الخلفاء الراشدين، ثم العصر الأموي ومطلع العصر العباسي، حتى توصل العرب إلى أسرار صناعة الورق (الكاغد) من الصينيين.

ولقد نقلت لنا أوراق البردي أحداث التاريخ الإسلامي في مصر وبلاد الشام والعراق في تلك الحقبة الزمنية، وكشفت ما كانت عليه أحوال الأمة من تقدم وازدهار، إنها تعد مصدراً لدراسة تطور الخط العربي واللغة العربية، إنها الوعاء الذي حفظ لنا جانباً من العلوم الإسلامية والعلوم البحتة، كالطب والصيدلة وعلم النبات والكيمياء والفلك، كما أنها تطرح نموذجاً رائعاً في فن الإدارة ومؤسسات الدولة بأساليب نظامية، تتسم بالحرفية والثبات، هذا بالإضافة إلى فن كتابة الرسائل الشخصية، ومدى استعمال الفصحى والعامية فيها.

إن أشهر أنواع البرديات هي اليونانية واللاتينية والآرامية والسريانية والقبطية والعربية واللغة المصرية القديمة والعبرية، والمتتبع للبرديات العربية التي تعود إلى عصر صدر الإسلام في مصر يجد أنها تضم النص العربي إلى جانب ترجمته اليونانية.

انتقلت البرديات بأنواعها من مصر إلى شتى بقاع العالم، حيث تسابقت دول أوربا وأميركا وبعض الدول الآسيوية إلى اقتنائها عبر قناصلها وبعثاتها وتجار الآثار. وكان للمستشرقين دور كبير في جمعها وتصنيفها وتحقيق بعضها ونشرها. ومن أشهر هؤلاء المستشرقين برنارد مورتز، الذي كان مديراً لدار الكتب المصرية منذ عام 1869م وحتى عام 1911م، ثم جوزيف كاراباتشيكومرجليون وكارل فسلي، والعالم النمساوي أزولفجروهمان.

وأكبر مستودع للبرديات في العالم، هي المكتبة الوطنية النمساوية في فيينا، حيث تضم 180 ألف بردية، منها 80 ألف بردية عربية، وهي أكبر مجموعة متكاملة في العالم، تشمل مختلف العلوم والمعارف، وتلقي الضوء على المراسلات الإدارية لإقليم مصر وما جاورها من البلدان الإسلامية، فضلاً عن تسجيل الوقائع التاريخية والنصوص القانونية والأدبية من شعر ونثر.

والسؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا، كيف وصلت تلك الشحنات الهائلة من البرديات إلى فيينا؟ علماً بأن عددها اليوم في مصر لا يتجاوز أربعة آلاف بردية!

لقد كانت عناية المستشرق البروفسور الدكتور جوزفكاراباتشيك (1845-1911م) أستاذ تاريخ الشرق الأوسط في جامعة فيينا، بأوراق البردي كبيرة جداً، فقد جمع بعضاً منها عند وجوده في مصر، ثم استعان بتاجر السجاد والتحفيات الشرقية في فيينا يتوتيودوركداف (1840-1903م) الذي كان له فرع في القاهرة، فاشترى له جميع ما وقع في يده من أوراق البرديات، فكان حصيلة ما جمعه عشرات آلاف من البرديات بأنواعها.

ثم استعان البرفسور كاراباتشيك بالأرشيدوق (الأمير) راينر (1827-1913م) ابن أخ قيصر النمسا فرانسيوزف الأول (1830-1916م) للحصول على العون المادي لحفظها وترميمها وفهرستها، فأعانه وأضاف إليها آلاف أخرى بالشراء من مصر، وأعد لها متحفا خاصا بها، ما زال قائماً حتى يومنا هذا، وكادرا متخصصاً للعمل فيه، ثم أقام البروفسور كاراباتشيك مديراً لهذا المشروع المتكامل، ثم أهداه إلى عمه القيصر بمناسبة عيد ميلاده في عام 1899م، فأصبح جزءا من مكتبة البلاط الإمبراطوري، ثم آلت ملكيته إلى المكتبة الوطنية في العصر الجمهوري في عام 1918م.

وخلاصة القول ما تم من نشر برديات فيينا العربية لا يتجاوز ألف بردية والبقية قابعة في الصناديق الحديدية في مكتبة فيينا الوطنية بالنمسا.. هناك من يستعد الآن لتحقيق عدد كبير منها.. وهنا أهيب بالدول العربية أولا أن تحاول استعادة هذا التراث الثمين وإعادته إلى مكانه الصحيح، وأن تشرع في تحقيق هذا التراث الثمين بتخصيص جزء من ميزانيات بحوثها لذلك، وبتوجيه بعض الدارسين للماجستير والدكتوراه بتخصيص أطروحاتهم لدراسة هذا التراث العربي القابع في مكتبات الغرب.. نحن أولى بدراسته وأولى أن يكون هذا التراث على أرضنا العربية.