في مثل أحوال اليمن لا تبدو الفوضى التي يحذر الأشقاء والأصدقاء من مزالقها مخيفة قدر ما هو القلق من ميوعة السلطة.

وليس من سلطة رخوة في مكان من الأرض تشبه نظام المرحلة الانتقالية – الانتقامية – التي استمرأت التراخي عن إثبات وجودها، وجازفت بإسقاط الفرصة تلو الأخرى من بين يديها ومن خلفها، حتى أن كثيراً ممن ساندوها باتوا يهرشون أجسادهم كما لو أن تعاطفهم معها صار جرباً مؤذياً تندى له الجباه.

وتقول الوقائع إن أوهن بيوت العنكبوت سلطة سياسية تتمحك بصلاحيات الحكم بواسطة الذرائع.

كيف تكون معبرة عن إرادة المجتمع وهي تتوسل المبررات سبيلاً للخروج من مأزق التهاون والضعف.. ومن أين لها بثقة الناس وهي تبدو أكثر ضعفاً منهم..؟ وما الذي يجعل منها سلطة ويد الفوضى تلوي ذراعها وتمرغ رأسها بالتراب..؟

وبالنسبة للفوضى فإن التهوين من مخاطرها لا ينبع من القراءات التقليدية حول توازن قوى الصراع، ولا انتشار السلاح في متناول الجميع، ولكن لأن هذا التوازن بنتائجه الكارثية على مدى خمسة عقود مضت جعل اليمن في حالة إعاقة دائمة عالجها خيال الهيمنة الخارجية بوصفاته المبتكرة.. فهي إما دولة هشة أو ديموقراطية ناشئة، وكلا المصطلحين يتعين الإبقاء عليهما لإدامة النفوذ الخارجي على البلاد الأقل نمواً بوصفها – تلك البلاد – مقالب كبرى لمجمل النفايات الدولية.

لم تعد الأمور كذلك في الوقت الراهن وأزعم أن متغيرات كثيرة جرت أثناء المراحل الأخيرة لدوري التصفيات التي تشهدها الأوطان بغية تتويج لحظة الخلاص أو إعلان الهزيمة الجماعية.

ليس مطلوباً من أحد أن يصير قناعاً مجرد قناع يحجب الرؤية ويعطل دور الشعب عن مباشرة مهام الدفاع عن الوطن من تلقاء نفسه.

ليس المطلوب من دولة الأستاذ خالد محفوظ بحاح الانضمام إلى جوقة الخداع ولا البقاء تحت رحمة مجلس النواب، ولكن التأكد من جدوى وجود حكومته أولاً..

لو كان مجلس النواب يمثل إرادة الشعب اليمني حقاً لذهب كل عضو إلى دائرته الانتخابية وأسهم في بلورة إرادة شعبية تقف خلف ما تبقى من الدولة من مقومات حياة وإمكانات تماثل.

كان على بحاح أن يثبت على تصريحاته الرافضة منطق التماهي مع هيمنة السلاح، وكان عليه البدء من حيث انتهى إليه ماراثون الصراع لا القبول بشروط وقوة الأمر الواقع بدلاً عن شروط وقواعد سلطة القانون.

البرلمان أملى على الحكومة شروطه التي تتغذى على عقلية الثأر والخصومة، والحكومة بدورها تنزل عند رغبة النواب وتفترض لنفسها ميزان ثقل يضاهي الإرادة الدولية السيئة وهي العاجزة عن تحرير صحيفتها الرسمية من الخطف..

مشهد درامي لم تعهده الشعوب في مختلف أوضاعها.. وكيف لا يكون درامياً فكهاً وهو يجمع بين سلطتين عائمتين غائمتين؟.. نواب يمثلون مصدر التشريع والرقابة، وحكومة كفاءات حزبية تجلس خلف شعار الأمن والشراكة، تعتقد الأولى أن سن القوانين وحماية الدستور مسؤوليتها على حين يفرض السلاح سلطته والميليشيا قوانينها دون الحاجة إلى مشروع منتفخ الأوداج يتوهم نفسه ممثلاً للشعب رغم أنفه.! والثانية تمني الناس برفع الراية البيضاء في مواجهة عنتريات القوة وليس بيدها ما يكفي لتأمين نعجة في محيط مقرها الرئيس. وفي أتون الدراما اليمنية يشتد أوار الجدل بين الجانبين ويحتدم عراكهما على خشبة العرض لكنهما ينتهيان إلى ذروة الإمتاع بحصول كل منهما على حاجته وحين المغادرة نكتشف أن لا أحد منهما أعطى الآخر شيئاً ذي قيمة أو نفع فكلاهما لا يملك ما يعطيه..! وربما لا يستحق ما يأخذه.. إذ لا ثقة النواب تساوي شيئاً مما تفتقده السلطة التنفيذية ولا الحكومة تمتلك من أسباب القوة ما يمكنها من الوفاء بالتزاماتها..

لا معقب على فوضى اللجان الشعبية لحركة أنصار الله الحوثية التي تشغل فراغات الخواء الذهني لدى قيادات ونخب المرحلة الانتقالية وأحسبها تستمد قوتها من هذا الخواء أكثر من اعتمادها على سندان الغلبة أو مطرقة السلاح.

عند موازنة الأضرار ببعضها يتفوق الإخوان المسلمين ومراكز النفوذ القبلي والعسكري على سواهما من مخاطر الإعاقة التي لازمت اليمن قبل وأثناء وبعد حقبة الرئيس السابق علي عبدالله صالح، وما تبرح بصماتها تتخلل أدواره العبثية حتى هذا الوقت. أما إذا اضطررنا لمعاينة أوجه الشبه بين غوغائية التمدد الحوثي وممارسات لجانه المسلحة وانتهاكاتها المتغولة على حساب حق المجتمع في الاستقرار وحقه في فرض سلطة القانون والحفاظ على مقدرات الدولة قياساً بالجزيئات المبعثرة من حطام المرآة القاتمة فإن تلك الجزئيات تنجذب مغناطيسياً وتتوحد بمجسم الإعاقة المركزي مجسداً بالنظام السابق!!

فلماذا لا يترفع الغطاء عن هذا المجسم بآلياته المتعددة وقواه المؤتلفة أو المختلفة؟

دعوا الحوثي منفرداً أو بالشراكة مع رأس النظام السابق يتصدر الواجهة ويتحمل تبعاتها..

وما لم يحدث ذلك أو ظل الأمر على حاله الراهن من اجترار إرث الماضي واختلاق الأغطية وإيثار نزوات الحكم بمعاجم التبرير وذرائع العجز، فإن هذا وحده من سيقود اليمن إلى كارثة تغمر المتفرجين وتكوي اليمنيين على حد سواء.