احتدم الجدل منذ زمن طويل بين الفلاسفة والمثقفين حول دور الفكر، فأشار البعض إلى أنه ينبغي أن يلتزم بقواعد علمية صارمة، أهم شروطه أن يكون حياديا ووصفيا وتحليليا، وإلا فقد صفة العلمية. وعد آخرون الكتابة موقفا من العالم، والموقف بطبيعته انحياز، والانحياز يلغي الحياد، الذي هو الشرط اللازم لاكتساب الصفة العلمية. بينما جادل آخرون في أن العلم لا يعني شيئا إن لم يكن هدفه الإسهام في تقدم النوع البشري. وذُكر في هذا السياق أن اختيار منهج معين من بين المناهج الكثيرة التي تكتظ بها المكتبات بداية الانحياز.

إن الإنسان في المبتدأ والخبر هو نتاج بيئته وأفكاره وإبداعاته وتطلعاته وأحلامه، هي من صنع واقع موضوعي معاش. وإذا ما صار هناك شذوذ عن هذه القاعدة فإن ذلك يعني انفصاما وانفصالا عن الواقع. ولهذا أصبح مألوفا القول إن المثقف هو ضمير الأمة والأكثر قدرة على تكريس ما لديه من خبرات ومعارف، وبروح نقدية، باتجاه صياغة مناهج وأفكار ورؤى قادرة على الإسهام في صناعة مستقبل أفضل لأمته.

تقودنا هذه المقدمة إلى الحديث عن الأستاذ عابد خزندار، ابن مكة المكرمة، الذي رحل عنا في الأيام الأخيرة بعد حياة زاخرة بالعطاء المبدع. لقد كان الراحل الكبير قامة وطنية ومفكرا ومثقفا ملتزما امتلك روحا نقدية عالية، سخرها في خدمة وطنه، من خلال الكتابات الصحفية التي عكف عليها في الصحافة المحلية لأكثر من خمسة عقود.

الأديب والمفكر الراحل هو نتاج ثقافات عدة، ثقافته المحلية التي نما وترعرع فيها، وكون بداياته الأولى بها، وثقافة عربية امتلك ناصيتها حين تحصيله العلمي في مصر، حين التحق بكلية الزراعة بجامعة القاهرة وتخرج منها عام 1957. وتمكن خلالها من التعرف على كبار المفكرين والمثقفين والمبدعين المصريين. وليغادر بعدها إلى الولايات المتحدة الأميركية، حيث حصل عام 1960 على شهادة الماجستير في الكيمياء الحيوية. وقد تمكن في تلك الحقبة من الاطلاع على الثقافة الأميركية، وتعمقت معرفته بلغة أهلها وعاداتهم. كما أتيحت له فرصة كبيرة للاطلاع على الأدب الإنجليزي، واكتساب معرفة ثقافة أخرى.

وأتاحت له إقامته في العاصمة الفرنسية باريس لعدة عقود اكتشاف الثقافة الفرنسية والتفاعل معها بعمق. هذا التفاعل بين أربع ثقافات: محلية وعربية وإنجليزية وفرنسية، وتمازجها جميعا مع روح الكاتب المنتمي، صنعت من خزندار شخصية فريدة وفذة، بأبعاد إنسانية تتجاوز ما هو محلي وضيق، ولكنها في ذلك الوقت صنعت منه كاتبا وطنيا وتنويريا ملتزما، فقد بقيت روح مسقط رأسه، مكة المكرمة ملازمة له، تذكر بقول الشاعر مظفر النواب، "البصرة بالنيات"، و"لا يوصلك البحر إلى البصرة، قلت بل يوصلني أو تأتي البصرة إن شاء الله بحكم العشق. هذه الروح العاشقة والمتوثبة، والمتسربلة بحب الوطن، هي التي صنعت شخصية الفقيد خزندار الفرانكفوني، وجعلتها تسخر كل ما اكتسبه من معارف وخبرات لصالح انتمائه الوطني.

بعد حيازته الماجستير من أميركا عاد خزندار إلى المملكة، وشغل وظيفة مدير عام بوزارة الزراعة في العاصمة الرياض حتى عام 1962.

ومنذ عام 1965 حتى تاريخ وفاته، اختار العاصمة الفرنسية مكانا لإقامته. وخلالها درس الأدب الإنجليزي والفرنسي، وتعمق في الثقافة الفرنسية، ما أكسبه ثقافة فرنسية وفرانكفونية، انعكست في إنتاجه النقدي الغزير والمتميز.

مارس الكتابة في الصحف المحلية، متنقلا من صحيفة الشرق الأوسط إلى صحيفة الرياض، ثم كاتب عمود يومي في صحيفة عكاظ، وليعود مرة أخرى للكتابة في صحيفة الرياض، حيث اختار زاوية فيها حملت عنوان "نثار".

وعبر مسيرته الصحافية بقيت هموم المواطن اليومية موضع اهتمامه، فناقش قضايا الصحة والتعليم والسكن والكهرباء والزراعة والتصنيع والتنمية ومخرجاتها، وقضايا المرور والاتصالات والبطالة وحقوق المرأة ومشاكل الزواج وحالات المعاقين والعجزة، مؤشرا إلى مواقع الخطأ حيثما وجد، ومعوقات التطور الاجتماعي من عادات بالية وتقاليد موروثة لا تتناسب مع تطور العصر، محرضا على معالجة أسباب الخلل. وفي كل كتاباته كان معبرا بصدق عن نبض الوطن، رغم بعد جسده زمنيا ومكانيا عن الوطن.

للفقيد الراحل، مجموعة من المؤلفات والكتب الفكرية والأدبية، السجالية والنقدية التي أحدثت حراكا كبيرا في الساحة الثقافية. من هذه المؤلفات: حديث الحداثة، قراءة في كتاب الحب، رواية ما بعد الحداثة، أنثوية شهرزاد، معنى المعنى وحقيقة الحقيقة، مستقبل الشعر موت الشعر، المصطلح السردي، التبيان في القرآن الكريم: دراسة أسلوبية، ورواية «الربع الخالي» وكانت آخر عمل إبداعي وصدرت عن دار الانتشار العربي عام 2014.

في العام 2005، تم الاحتفاء به في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب في ألمانيا كأديب ومفكر مبدع. بلغت شهرته معظم البلاد العربية. وكتبت عن إبداعاته دراسات وبحوث عدة.

وصفه كثير من أصدقائه وزملائه وممن تابعوا مسيرته الحياتية والفكرية بالوطني الغيور والمتسامح. وعرف الراحل بتواضعه الجم وقبوله النقد، وبالتمسك بثوابته، وثقته بمستقبل وطنه، إنساني في رؤيته وسلوكه. لم يعد الكتابة مجرد ترف فكري، ورياضة ذهنية، بل سبيلا للرقي بالمجتمع وخلق غد أفضل لأبناء وطنه وللبشرية جمعاء. لقد كان الالتزام بالنسبة للفقيد العزيز عابد خزندار قاطرة الفكر.

لقد مثل رحيل الفقيد خسارة كبيرة للأدب والفكر ولمحبي الثقافة وللوطن. تغمد الله روح الفقيد بواسع رحمته، وألهم ذويه وأصدقائه ومحبيه الصبر والسلوان، إنا لله وإنا إليه راجعون.