مهما قلنا وكررنا ما قلناه فلن نوف أهمية العلم في رقي الأمم حقه. أمثلة من التاريخ المعاصر تحكي قصة شعوب كانت قابعة في حفر التخلف انتهى بها التعليم إلى مصاف الدول التي تؤثر في صنع القرار العالمي. وأمم أخرى كانت تسود العالم ويرهب الآخرون جانبها، تردت في ثنايا الجهل فما لبثت أن تخلفت، ثم نُهبت وتفككت أوصالها، حتى ما عاد لها ذكر أو هيبة.

وهناك فئة ثالثة تجمعت عليها جيوش الحلفاء، في الحرب العالمية الثانية ودمرت بنيتها التحتية كاليابان وألمانيا، وأضعفت قدراتها على التصنيع، وردتها إلى الوراء عقودا. لكن وفي أقل من نصف قرن عادت إلى المقدمة. وما يعنينا هنا أن كل من أسس اقتصادا قويا ومستداما في عصرنا الراهن، كان بناؤه يقف على الإرادة ويرتكز على العلوم والمعارف. وللنوع الأول، موضوع حديثنا، أمثلة كثيرة تبدأ بسنغافورة وكوريا الجنوبية وماليزيا، وتنتهي بالهند والصين والبرازيل وإندونيسيا.

وتجربة كوريا الجنوبية في التحول من حظيرة التخلف في دول العالم الثالث والاقتراب من بوابة العالم الأول دليل على إمكانية التحول ومغادرة عالم "الفقراء" في وقت قياسي كما حققته كوريا وغيرها. ففي عام 1970 كان دخل الفرد في كوريا الجنوبية لا يتجاوز 650 دولارا في السنة وصل في عام 2004 إلى 12600 دولارا، وحاليا تجاوز دخل الفرد فيها 20000 دولار، وتقابله أعداد الطلاب المسجلين في المدارس ففي عام 1970 كانت نسبة الملتحقين بالثانوية العامة 20.1%، وارتفع إلى 90.1% في عام 2004.

والسبب أنه في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي قررت حكومة سينغمان ريي إنفاق مجمل المساعدات الأمريكية على بناء منظومة من المدارس المتوسطة والثانوية في طول البلاد وعرضها لإعداد القوى البشرية التي ستحتاجها البلاد في زمن النهضة القادم، وأنفقت منها كذلك على بناء الطرق وإنشاء شبكات الاتصالات لربط أوصال الدولة. وفي بداية الستينيات حصد الجنرال باركر، بعد أن وصل إلى سدة الحكم، ثمار القرارات القديمة، عندما بدأ برامجه الإصلاحية بقوى بشرية متعلمة ومتنورة، وكان ذلك من أهم أسباب النجاح في نقل البلاد من عالم زراعي متخلف في الستينيات إلى قريب من مصاف كبرى دول العالم الصناعية اليوم.

وأنفقت المكسيك في نفس الفترة أكثر بقليل مما أنفقته كوريا على التعليم إلا أن الفرق شاسع في المخرجات. ويرجع البروفسور كيو لي الاقتصادي بالبنك الدولي والأستاذ بجامعة سيئول ذلك إلى أسباب أهمها كفاءة وفاعلية سياسات الاستثمار في التعليم.

نحن اليوم لا نشكو من قلة الإنفاق على المؤسسات التعليمية، فالمملكة بقيادة خادم الحرمين الشريفين أصبحت من أكثر الدول إنفاقا على التعليم. تضاعفت أعداد المدارس بكل فئاتها، وازدادت أعداد الجامعات والمعاهد والكليات التقنية، حتى أصبح التعليم متاحا للجميع تقريبا، واكتمل النصاب بابتعاث عشرات الآلاف من الشباب والفتيات إلى الغرب والشرق. خطوات بل قفزات نحو الأمل، نستبشر بها مستقبلا زاهرا إذا اكتملت مسيرة التغيير والتحديث، ولحق التغيير بالنوع كما نال الكم.

وأي استراتيجية للتعلم لابد أن تراعي أركان المنظومة؛ كفاءة الأستاذ وجودة المادة الدراسية وتجهيزات المرافق، وخلل بواحد منها كفيل بانهيار المنظومة بكاملها. شيدنا المرافق حتى أصبح التعليم متاحا، تقريبا، لكل من هو في سن التعليم، أين ما كان.

أما مادة التعليم في المدارس فلا تزال بحاجة إلى التغيير والتحديث، بحاجة ماسة إلى النقد العقلاني، كماً وكيفاً. فكماً؛ لا يجوز أن يحمل طفل في الثامنة من عمره حقيبة مدرسية تزن أكثر من نصف وزنه. وكيفاً؛ لا ينبغي أن يتعرض لمواد لا تنفعه وترهق كاهله، أو بطريقة لا تتفق وقدراته، تعتمد التلقين، ولا تأخذ بمناهج التعليم الحديث.

والمعلم، وإن افترضنا علو كفاءته في مادته العلمية والتربوية وقت تخرجه، تتراجع قدراته مع الزمن، فلا يتعرض لما يستجد في العلوم والنظريات التربوية، أو لا يجد برنامجا متخصصا يطور به مكتسباته، فيما عدا بعض الدورات التي لا يعتبرها الكثير من المدرسين إلا من ضرورات الترقية.

في كثير من الدول يكون المعلم مطالبا بحضور ندوات ودورات في مادته العلمية والتربوية ويشترط عليه اجتياز امتحاناتها لمواصلة عمله التربوي والحفاظ على وظيفته، وهي برامج دورية، تضمن الجودة، وبقاء المدرس على اتصال بالوسط العلمي.

وعلى مستوى التعليم الجامعي هناك عدة قضايا لابد من التدقيق فيها، أهمها مستوى الأستاذ وكفاءته. فعندما اشتكت كوريا الجنوبية، مثالنا، من تخلف جامعاتها في الترتيب العالمي، قررت الحكومة استقطاب العلماء البارزين على المستوى الدولي.

وفي المقابل، فمن ينظر إلى كادر مرتبات الأساتذة المتعاقدين في جامعاتنا تنكشف له أسباب غياب أو ندرة العلماء المتميزين منهم. لن يقبل المتميز ولن تستقطبه عروض جامعاتنا إلا في ظروف استثنائية.

وعضو هيئة التدريس السعودي بحاجة إلى فرصة لتطوير ذاته والارتقاء بقدراته عن طريق التواصل مع العلماء والتعرف على تجاربهم، وما استجد في التخصص. ولا يتحقق هذا في ظل التضييق الممارس على حضور المؤتمرات والندوات العالمية، وتقييده بشروطها التعجيزية، وفي ظل بيروقراطية تمويل الأبحاث. والفنيون بحاجة إلى التطوير للتعامل مع الأجهزة والبروتوكولات العلمية الحديثة.

هذا ليس كل ما في الأمر، فحقيقة، نحن بحاجة إلى خطة شمولية تلمس كل مقومات النهضة التعليمية، وتتكامل مع باقي الخطط التنموية واستراتيجيات البلاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.